ولعمري إن النفس عند هذا أحق أن يجدّ في طلب الجد جدُّها، ويقف عند الأهم حدّها، فتبعد عن قول الشعر بمراحل، وعن سبل اللهو التي هي له أفراس ورواحل، ولكن للنفس فرطات، ولا بد لها أحياناً من سقطات، فمن ذلك قولي:
ما أنصفت فاس ولا أعلامها ... علمي ولا عرفوا جلالة منصبي
لو أنصفوا لصبوا إليّ كما صبا ... راعي سنين إلى الغمام الصّيبِ
ثم اثبت في هذه الحافظة ما وقع لي من الشعر في ذلك العهد، وهو مجموع في الديوان فلا حاجة إلى الإطالة به هنا، وإنما الغرض من ذكر هذين البيتين الواقعين على السبب الذي ذكرناه قبل، وأظن أن البحتري وقع له شبه هذا الشعر في ذم بغداد، ولكني لم أقف عليه بعد، ولم يطرق سمعي حين قلت ذلك وإنما رأيت بعد ذلك أبا العلاء المعري أشار إلى ذلك منتقداً عليه حيث قال:
ذمَّ الوليدُ ولم أذْمُم جوارَكمُ ... وقال ما أنصفت بغداد حُوشيتا
فإن لقيت الوليد والنوى قذف ... يوم القيامة لم أُعدُمْه تبكيتا
فلما رأيت هذا نبهت بهذا الكلام لئلاّ أنسب إلى الأخذ، فإن وقع شيء فمن توافق الخواطر، وفي البيت الثاني تلميح إلى قول الأعرابي في حسن الحديث:
وحديثاً كالقطر يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا
فأصبح يرجو أن يكون حياً ... ويقول من فرح هَيّا رَبّا
وإنما استسهلت، وأستغفر الله، التمدح والافتخار لأن ذلك مباح في الشعر، مسلوك في سائر الأعصار والأمصار.
لله الأمر من قبل ومن بعد
الحسَد والحساد
وما ذكر من عدم الإنصاف سببه الكبر والحسد، وهما الداء العضال الذي هلك به إبليس، نسأل الله العافية، وذلك معجون في طينة الآدمي ومبتلى به إلاّ من طهره الله من أصفيائه، وقليل ما هم.
ولم يزل ذو الفضل محسوداً، وكلما كثر الفضل كثر الحساد، فوجود الحساد دليل على وجود الفضل، وعدمهم على عدمه، فإذا قيل للشخص: كثر الله حسادك كان دعاء له، وإذا قيل: قلل الله حسادك كان دعاء عليه.
وقد أكثر الشعراء من هذا المعنى قال الكميت الأسدي:
إن يحسدونني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظاً بما يجد
أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدراً منها ولا أرِدُ
وأنشد أبو علي الحاتمي في " حلية المحاضرة " بدل البيت الأخير:
لا يبعد الله حسادي فإنهم ... أشر عندي من اللائي لهن الودد
والظاهر أن قوله: " أشر " تصحيف من الكاتب، وإنما هو: " أحب ".
وقال عروة بن أذينة:
لا يبعد الله حسادي وزادهم ... حتى يموتوا بداء غير مكنون
إني رأيتهم في كل منزلةٍ ... أجل فقداً من اللائي أحبوني
وقال نصر بن سيار:
إني نشأت وحسّادي ذوو عدد ... يا ذا المعارج لا تنقص لهم عدداً
إن يحسدوني على ما بي وما بهم ... فمثل ما بي لعمري جر لي الحسدا
وقال معن بن زائدة:
إني حسدت فزاد الله في حسَدي ... لا عاش من عاش يوماً غير محسود
ما يحسد المرء إلاّ من فضائله ... بالعلم والظرف أو بالبأس والجود
وقال أبو نواس:
دعيني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير
وقال الأول:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
محَسَّدون على ما كان من كرَم ... لا ينقص الله عنهم ماله حُسدوا
وقال أبو تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرفِ العود
واعلم أن هذا الشعر ونحوه يخيل استحسان الحاسد واستحباب وجوده بل كثرته، ولم يزل الناس يكرهونه ويتخوفون منه، ويستعيذون من شره، وقال تعالى) وَمِنْ شَرِّ حَاسدٍ إذَا حَسَدَ (فقد يقف القاصر على هذا فيحار، ولا يدري ما يختار، وفصل القضية في ذلك أن وجود الحاسد، كما مر، دليل على وجود الفضل، وذلك لما عرف أن الحسد هو حب زوال ما ظهر على الغير من خير، إما ديني أو دنيوي، حسي أو معنوي، عاجل أو آجل، حقي أو ادعائي فلزم من وجود الحسد وجود الخير.