هذا ومتى تأمل العبد أحواله، واستقرأ عوارضه، وجد لطف الله تعالى أغلب، ونعمته عليه أوسع، قال تعالى:) الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ (وقال تعالى:) وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصوهَا (، وفي الخبر: " يَقُولُ الله تَعَالَى: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبي ".
ولا يشك العاقل أن أيام البلاء أقل من أيام العافية، وأوقات العسر أقل من أوقات اليسر وهكذا.
وقد قال الله تعالى في قصة آل فرعون:) فَإذَا جَاءتْهُمُ الحَسَنَة قَالُوا لَنَا هَذِهِ (الآية. ثم لا يخلو وقت من لطف، ولذا قال أئمة التصوف رضوان الله عليهم: العارف من عرف شدائد الزمان في الألطاف الجارية.
ثم المؤمن كما في الحديث كله بخير، إن أصابه الخير شكر الله تعالى فكان له خيراً، وإن أصابه شر صبر فكان خيراً له.
وقال بعض العارفين: الناس كلهم في مقام الشكر، وهم يحسبون أنهم في مقام الصبر. وبيان هذا من أوجه: الأول - أن موجب الشكر وهو النعمة أغلب، والحكم للأغلب.
الثاني - أنه ما من شر وبلاء يصيب العبد إلاّ وفي مقدور الله تعالى من البلاء ما هو أفظع منه قد صرفه الله تعالى، فيجب الشكر على الاقتدار على ما وقع.
الثالث - ما يفيده البلاء من رياضة النفس وتشجيعها للنوائب وإخماد سَوْرَتِها والنجاة من طغيانها وما يجر إليه من البلاء ديناً ودنيا، وتربية العقل بتعريفه تقلبات الدهر وفتح البصيرة في الأمور وهذه الأوجه عامة في المؤمن وغيره.
الرابع - ما يحصل بالبلاء في الدنيا من مزيد المعرفة بالله تعالى وقهره وقوته وبطشه وفي الآخرة من الأجر العظيم.
الخامس - ما يحصل للنفس من الخشوع لخالقها والانفكاك عن المعصية.
السادس - سلامة ثوابه من شوب الرياء وما يفسده إذ لاحظ للنفس فيه فهو خير قد دخل عليها بلا تعمل، فالشكر عليه أحق، إلى غير ذلك من الفوائد التي يطول تعدادها، فمن علم ذلك كان البلاء عنده محل الشكر فصار في مقام الشكر على كل حال.
لله الأمر من قبل ومن بعد
[الشجرة الخضراء]
[في المدينة الحالية: سجلماسة]
كان بسجلماسة أيام ارتحلنا إليها للقراءة زمان الصبا شجرة يقال لها الشجرة الخضراء مشهورة في تلك البلاد وفي سائر بلاد القبلة، وهي قدر الزيتونة أو السدرة الكبيرة، وورقها يقرب من ورق السدر، وسبب شهرتها أنها غريبة الشكل دائمة الخضرة وغريبة في محلها لأنها في البلد وليست من شجر البلد، وهي منفردة ليس معها شجر أصلاً، وكانت نابتة خارج سور المدينة الخالية بينه وبين النهر قبالة الرصيف الذي يعبر عليه لناحية الزلاميط، ويقال: إن ذلك باب من أبواب تلك المدينة، والله أعلم.
ثم إن الأستاذ الفاضل أبا يزيد عبد الرحمن بن يوسف الشريف بعث إليها جماعة من الطلبة فقطعوها، وكان ذلك يوم الخميس، وكنت جئت من ناحية المراكنة ذلك اليوم قصداً إلى سوق الخميس، فلما بلغت إلى الشجرة وجدت الطلبة حين بلغوا إليها بقصد قطعها فقعدت حولها أنظر، فلما انفصل أهل السافلة من السوق وكانت طريقتهم كان كل من يمر فيراها تقطع يصيح ويتأسف ويقول: ما فعلت لكم المسكينة؟ وكان أهل سجلماسة لما استغربوا أمرها يزورونها، ولا سيما النساء، فيكثرون عليها من تعليق الخيوط ويطرحون الفلوس أسفلها، وربما تغالت النساء في تعظيمها والتنويه بشأنها حتى يسمينها باسم امرأة صالحة كالسيدة فاطمة ونحو ذلك، فلهذا أمر الأستاذ المذكور بقطعها وكأنه يرى أنها صارت ذات أنواط كما قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه، فذكرناها نحن للتنبيه على ذلك، فإن عوام الناس أكثروا عليها منذ عقلنا حتى كانوا ينسبون إليها من ترهات الأراجف نحو قولهم: قالت الشجرة الخضراء: هذا زمان السكوت، من قال يموت، فليعلم الناظر أنها إنما هي شجرة لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ومثلها أحق أن يقطع.
ومن هذا نسيت شجرة بيعة الرضوان حتى لم يثبت عليها الصحابة الذين كانوا تحتها فضلاً عن غيرهم، وذلك مخافة أن تعبد.