ومنها أنه قد يعد من هذا الباب ما ليس منه مما يرجع إلى مجرد تخيلات ووساويس، ولم يظهر فيه حكمة منوطة ولا عادة صحيحة جارية، وأكثره يكون بتسلط شياطين يعبثون بمن يتوهم ذلك، فلا يلتفت إلى هذا النوع بوجه من الوجوه، ولا سيما إن أبطل سنة وعارض حكماً شرعياً كالذي يقول: إني جربت أني متى أعرت أو سلفت أو تصدقت أو أضفت ضيفاً تصيبني مضرة، فهذه شيطانية.
وقد حكي عن بعض الناس أنهم ما يذبحون الضحية، وأنهم متى ذبحوها أصابتهم مصيبة، فلما اعتادوا ذلك تركوها، فتمادوا على هذا الضلال حتى انتهى الأمر إلى رجل منهم موفق فقال: والله لا أترك السنة ولأضحيَنّ، فلما ضحى يبِسَتْ يده اليمنى فقالوا: هذا الذي حذرناك، فقال: لا أبالي، فلما أتت الضحية من قابل ضحّى أيضاً فيبست يده الأخرى، فلما ضحى الثالثة يبست رجله، ولما ضحى الرابعة يبست رجله الأخرى، ولما ضحى الخامسة انطلق ولم يبق به بأس " وانقطعت تلك العادة الباطلة " وتبين أنه شيطان يعبث بهم ويفسد عليهم دينهم.
لله الأمر من قبل ومن بعد.
[تأملات المؤلف في النعيم والعذاب]
كنت في هذه السفرة التي كتبت فيها هذه الأوراق سافرت زمن البرد، فلما انفصلت منم البلد قلت:
أيا رب البرايا يا رحيم ... ويا مولى العطايا يا حفيظ
أجرنا من عذابك وامتحان ... تجيش النفس منه أو تفيظ
ومن وعثاء في سفر وسوء ... ومن صُرَدٍ وسائر ما يغيظ
يقال فاظت نفسه إذا مات، والوعثاء بعين مهملة وثاء مثلثة المشقة، فلما أمسينا وضعت بين أيدينا فاكهة الشتاء فنعمنا بها، فلما رأيت ذلك قلت: سبحان الله من جعل رحمته في عذابه أي النار، وجعل عذابه في رحمته أي المطر، ثم نظمت هذا المعنى فقلت:
سبحان من يقدر أن يرحما ... بما به يعذب المجرما
وأن يعذب بما يرحم ... العبد به يوماً إذا أنعما
فظهر اقتداره واعتلى ... في كلّ أمر شأنه واستمى
وظهرت حكمته في الذي ... ركب في الدنيا وما أحكما
فمُرُّها لم يخل من حلوها ... وحلوها قد أشرك العلقما
في أبيات أخرى أنسيتها الآن، وتقرير هذا المعنى من وجهين: أحدهما أن هذه الأمور التي يباشرها الإنسان ذات وجهين: نافع وضار، ألا ترى أن النار مثلاً تدفئ من البرد وتحرق، والمطر مثلاً ينبت الزرع والنوار، ويخلف المياه الغزار، ولكن يخرب الديار، ويقطع المسافر عن التسيار، وهكذا، والحكمة في ذلك التركيب المشار إليه في الدنيا لما مرّ من الدلالة على ما في الآخرة من النعيم والعذاب والترغيب والترهيب وغير ذلك مما يطول تتبعه.
ثانيهما أن كل ما هو نافع فالله تعالى قادر أن يجعله ضاراً وبالعكس، وذلك لما تقرر في العقيدة من أن ما يوجد في هذه الحوادث من الفوائد والخواص ليس ناشئاً عنها لا باختيار ولا علة ولا طبع، بل عن الفاعل المختار تعالى بقدرته ومشيئته، وليس ثم ارتباط عقلي، فيجوز وجود ذلك وعدمه، فلله تعالى أن يجعل النار مثلاً محرقة مرة، ثم يجعلها غير محرقة، وأن يجعل الخبز مثلاً مقتاتاً ثم يجعله غير مقتات كالحجر، وهكذا، ولكن أجرى الله تعالى عادته بما وقع لما مر من الحكمة وكثيراً ما يخرق ذلك وقد مر كل ذلك.
لله الأمر من قبل ومن بعد
انهزام الدلائيين في معركة بطن الرمان