الثاني أنه حكي عنه أنه كان في بعض أسفاره مر برجل من هذا الجنس، فقام الرجل إليه ورحب به ترحيباً بالغاً، واستدعاه للنزول والتضييف بغاية الاستحثاث، فنزل رضي الله عنه فبالغ الرجل في ضيافته وإكرامه مع غاية التاديب معه وتبجيله والبر به، فلما رأى الإمام ذلك قال في نفسه: سبحان الله! " مثل هذا " الخير لا يصدر عن مثل هذا الشخص بما تقرر الحكمة في أمثاله، وهذا الإنسان ينقض علينا القاعدة، فاغتمّ لذلك وبات مغموماً متحيراً فلما أصبح وتهيأ للرحيل لم يشعر إلاّ وقد ناوله الرجل سجِلاًّ فيه مكتوب كل ما أكل وكل ما انتفع به عنده، مقوماً بقيمة مضاعفة وقال له: ادفع لي ما أكلت، وإذا هو رجل صاحب مكر واحتيال على الناس بالضيافة ليتجر فيهم، فعند ذلك سُرِّيَ عن الإمام رضي الله عنه وعلم أن القاعدة لم تنخرم، فوزن له ذلك عن طيب نفس وسرور بصحة القاعدة، انظر الأمثال الحديثة.
ودخل الشعبي سوق الرقيق فقالوا له: هل من حاجة؟ فقال: حاجتي صورة حسنة أتنعم بها، يلتذ بها قلبي، وتعينني على عبادة ربي، وكأنه يتذكر ما عنده والتشويق إليه. وأدام " النظام " النظر إلى جارية حسنة فقال مولاها: لم؟ فقال: ما لي لا أتأمل منها ما أحل الله، وفيه دليل على حكمة الله واشتياق إلى ما وعد الله.
وقال الراجز:
ثلاثة تجلو عن القلب الحزن ... الماء والخضرة والوجه الحسن
وقال إسحاق الموصلي:
لا أشرب الراح إلاّ من يدي رشأٍ ... تقبيل راحته أشهى من الراح
ولا بد من التنبيه في هذا الباب لأمور: منها أن هذه الأسباب الحكميّة قسمان: قسم ظاهر، وهو ما يرجع إلى قوام الإنسان في معاشه غذاء ودواء، مباشرة أو بواسطة قريبة أو بعيدة كما في التمثيل ببعضه، وقسم خفي، وهو ما لم يصل إلى تلك المنزلة بذاته، وإن كان له بها مساس، فالأول لا ينكر على من يتعاطاه لوضوحه، والثاني هو الذي يقع فيه الإنكار كما مرّ كل ذلك.
ومنها أن الأمر العاديّ كما أنه لا تأثير فيه إلاّ لله تعالى كذلك لا ارتباط فيه عقلاً، وإنما هو أمر يجعله الله تعالى وتستمر عادته تعالى به اختياراً منه، ومتى أراد أن يخرقه خرقه، كما شوهد ذلك في منجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، وسحرة السحرة، فكل ذلك خرق من الله تعالى لحكمة كما أجراه أولاً لحكمة: وقد أخرج أهل الحيرة السم القاتل للسيد خالد بن الوليد رضي الله عنه طمعاً منهم في أن يقتلوه، فلما علم به أخذه فسمى الله تعالى وأكله، ولم يضره شيئاً ولا يحصى كم من عابد بقي حياً بلا طعام ولا شراب.
ولما حاصر المعتصم عمورية نهاه المنجمون أن يتقدم لقتالهم في ذلك اليوم، فلما بلغ ذلك بعض أهل الدين في عسكره دخل عليه فقال له:
دع النجومَ لطرقيَّ يعيش بها ... وقم لوقتك وانهض أيها الملك
إن النبي وأصحابَ النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا
فنهض إليهم لوقته ففتح عليه.
وأصل هذا ما في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه إثر سماء وقعت: " أتَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولَهُ أعْلَمُ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالى: أصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بي وَكَافِرٌ، فَأمّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَذَاكَ مُؤْمِنٌ بي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ. وَأمّا مَنْ قالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا فَذَاكَ كَافِرٌ بي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ " وهذا هو الذي قررناه قَبْلُ من تحقيق التوحيد وليس فيه إنكار العادة الجارية.
والنوء عند العرب أن يطلع نجم، وقيل: أن يغرب، وهو الأصح " فيقع وهكذا " وقد أجرى الله تعالى عند طلوع النجوم وعند غروبها وعند اقتران بعضها ببعض أموراً كثيرة في المملكة اختباراً منه تعالى، ونبه إليها من شاء من عباده فحصل لهم علم الأنواء، وعلم الاقترانات وسائر علم التنجيم، وهي كلها عادات جارية بإذن الله تعالى، والمتنبهون إليها لمعتبرون لها منهم من آمن ومنهم من كفر، والمقياسُ الحديثُ السابقُ على ما مرّ من تفصيل أحوال الناس.