نعم الناس في أمر الطلب والدعاء لا في هذه ولا في غيرها صنفان:" صنف " يسلم ولا يطلب، " وصنف يطلب " وذلك " بسبب " اختلاف المشارب وتباين الشهادات، فمن أشهده الله تعالى كونه عبداً مملوكاً مكفولاً بعين مولاه وفي حياطته لم يبق له دعاء ولا طلب، بل التوكل والتسليم وانتظار القسمة السابقة، وله في هذا مشارب، فقد يلاحظ حياطة المولى وكفالته فيستغني، وقد يلاحظ انبرام القسمة وأن الدعاء لا يزيد فيها ولا ينقص فيمسك، وقد يلاحظ علم الله تعالى وقدرته وجوده فيستحيي، إذ لا ينبه إلاّ غافل، ولا يستنهض إلاّ عاجز ولا يستعطف إلاّ بخيل، إلى غير هذا من الواردات، وقد يلاحظ إساءته وتقصيره في الخدمة فيستحيي أن يطلب، ومن أشهده الله تعالى " كونه " عبداً فقيراً محتاجاً إلى سيده لا يستغني عنه لحظة، وقد أذن له في رفع حوائجه إليه فليس إلاّ الدعاء والطلب، وله في ذلك أيضاً مشارب، فتارة يسترسل مع وصفه من الافتقار واللجأ إلى مولاه، وتارة يرى تعاطي ذلك وإظهاره هو اللائق بالعبودية، وتارة يلاحظ امتثال أمر الله تعالى حيث طلب من عباده أن يدعوه، وذلك كله من غير التفات إلى حاجة تقضى ولا ثمرة غير ما حصل له من التعبد والمناجاة والتذلل بين يدي الملك الجليل، وناهيك بذلك ثمرة " مع " ما يرجى أن يستتبعه ذلك من رضوان الله تعالى، وهو نهاية السول وغاية المأمول، وهذا كله لمعرفته بأن القسمة قد سبقت لا تزداد ولا تنقص، ومحال أن يكون الدعاء اللاحق، سبباً للعطاء السابق، فلم يبق إلاّ أن الدعاء عبادة وتأدب مع الرب تعالى، والرب يفعل ما يشاء " ويحكم ما يريد "، وقد يلاحظ أن من جملة ما يقضى ترتب بروز العطاء على الدعاء، وأن الاشتغال بالدعاء سبب كسائر الأسباب فينتهض لإقامة الحكمة في تعاطي الأسباب وامتثال أمر الله تعالى في ذلك إذا أقيم " فيه " وهذا الوجه هو الذي يظهر من أحوال من يتحرى أوقات الاستجابة وأسبابها من الصالحين، والأوجه كلها حسنة لا يخرج المتلبّس بشيء منها عن الخصوصية، نسأل الله تعالى أن يمنحنا حسن الأدب بمنه.
ثم الداعي أيضاً له حالتان، لأنه إما أن يشهد حال نفسه من الإساءة والتقصير والخساسة الذاتية والذلة والمهانة فلا يدعو إلاّ بما يناسب ذلك من العفو والمغفرة والنجاة من النار والإقالة واللطف ونحو ذلك، وفي هذه الحالة قال القائل: تجرأت البارحة فسألت الجنة، وقال الآخر: سبحان الله متى خرجنا من النار حتى نطلب الجنة، وإما أن يشهد وصف ربه من الكرم والجود والفضل، أو يشهد أنه عبد للمالك العظيم، ويلاحظ نحو قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا سَألْتُمْ اللهَ فَاسْتَعْظِمُوا المَسْألَةَ، فَإنَّ اللهَ لا يَتَعَاظَمُهُ شَيْء " فيدعو بما يناسب ذلك من الجنة والدرجة العلية، والرضوان والمعرفة، والمحبة والقرب والولاية، ونحو ذلك، ولا شك أن الحلة الأولى هي أنسبُ بالعبد في هذه الدار وأسلم له، ولكنه بيد الله تعالى يتصرف ويتلون بحسب سابق المشيئة.
وأما الحلاوة فمن جهة ما ذكرنا من التدريج، فإنا نود أن لو وجد المسرف حلاوة للطاعة وتبعها حتى يترك فسقه ويتمرن على العبادة، فعسى أن ينقله الله إلى حالة أخرى أرفع، وقد تكلمنا فيما لسنا من أهله وتعدينا طورنا، فنستغفر الله تعالى.
لله الأمر من قبل ومن بعد
[تدبر العقل في أسرار الكون]
اعلم أن الله جل أسمه بلطيف حكمته وبديع صنعته خلق العقل وجعل غذاءه العلوم والمعارف، ويسر له الاستعداد من الموجودات قال تعالى:) إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (وقال تعالى:) وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم (فما من شيء يبرز في الوجود من السماء والأرض وما بينهما إلاّ ويمكن أن يكون للعقل فيه غذاء بحصول علم أو علوم، ويختلف ذلك باختلاف العقول فطنة وجموداً أولاً، وباختلاف مواهب الله تعالى وفتوحه ثانياً، ويجري ذلك في الجواهر والأعراض وما لها من الكميات والكيفيات والهيئات، فمن رزقه الله تعالى فطنة استفاد من الأمور ما يستغربه أهل الجمود.