ثم " إن " التجرد العام، والصفاء التام، عزيز الوجود، ومن ثم قال الشيخ أبو العباس بن العريف رحمه الله: علق العباد بالأعمال، والمريدون بالأحوال، والعارفون بالهمم، فالأعمال للجزاء، والأحوال للكرامات، والهمم للوصول، والكل عمى وتلبيس، إلى أن قال: وإنما يبدو الحق عند اضمحلال الرسم، وما سوى الله حجاب عنه، فهذا مقام التحقيق، ولكن لمن أهل له وبلغه، وليس للمرء أن يلزم به المريد بأول قدم، ولا أن يطمع بحصوله لكل متوجه، ولا أن يطمع بحصوله لكل متوجه، ولا أن لم يحصل له لم يحصل له فليس من أهل الطريق، " كلا " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله.
والرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وما على العبد إلاّ تعاطي الأسباب، وعلى الله فتح الباب، وهو موهبة وخصوصية من الحق لا تنال بمقياس، فمن أراد الله تعالى توصيله طوى عنه مسائف نفسه، ومحا عنه وهمه، فإذا هو عند ربه ومن أراد أن يمادَّه في ميدان أوهامه بقي فيها بقاء بني إسرائيل في التيه.
أما ترى إلى قول الشيخ عبد السلام بن مشيش في برد الرضا والتسليم: أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله تعالى: فنقول: نعم، ثم لو جرد عن تلك الحلاوة لأوشك أن يشتغل بذلك التجريد عن الله تعالى ما دام يلاحظه، فإن كل ما سوى الله حجاب عنه، ثم هكذا في التجريد عن التجرد والفناء عن الفناء إلى ما لا يتناهى حتى يقطع الله تعالى ذلك بموهبته لمن اختصه من عباده.
وأما الوجه الثاني فإن هذا الكلام يوهم قلوب عوام المريدين أن الولاية لا تطلب رأساً، وأن المريد متى طلب من الله تعالى أن يرزقه الولاية أو الفتح أو المعرفة أو القرب أو الوصول أو نحوها، أو تشوف إلى شيء من ذلك فهو معلول السلوك، أو هالك مقطوع، وهذا غلط وجهل، كيف والعبد مأذون له أبداً أن يسأل مولاه ويطلبه في حوائجه من أدناها كشراك النعل فإنه إن لم ييسره لم يتيسر إلى أعلاها كرضاه، فإذا طلب من مولاه أن يرزقه ما رزق أولياءه في الدنيا والآخرة فأي حَرَج عليه في ذلك إذا وقف على حدود الأدب؟ وإنما حذر الناس من العلل والصوارف، وذلك أن يكون الباعث له على الانتهاض إلى السلوك والاشتغال بالعبادة إنما هو حصول الولاية مثلاً، فإنه حينئذ يفوته الاخلاص في عبادته فيفسد أمره، ويكون ما يرجو من الولاية مثلاً شاغلاً لفكره وسره عن الله تعالى.
فأما من عرف الحق وأن العبد يعمل تعبداً والمولي يعطي تفضلاً لا غير وانتهض على ذلك الوجه يعبد الله تعالى امتثالاً لأمره، وأداء لحق ربوبيته على باب مولاه وسيده ورجاء للنيل من مائدته الموضوعة للخيار فلا بأس عليه، ولا مذمة تلحقه، ولا علة تدخل عليه ما دام على هذه الحال.