فلا تعذلوني بعدما قد شرحته ... على أن منعتم في اقتطاف القطائف
على أن ما زودتم من فكاهة ... ألذ من الحلوى لدى كل عارف
فتلون وجهه - رحمه الله - وخجل ولم يرَاجعني بكلمة، فلولا معرفة المقامات واستحضار هذا البيت لأخجلني عوض ما كنت أخجلته، والشيء يذكر بالشيء.
لله الأمر من قبل ومن بعد
[تنقل المؤلف في طلب العلم بالجنوب]
كنت أيام طلب العلم في بلاد القبلة " حتى " أخذت بطرف من العربية، فحدث لي انتقال على ناحية مراكش، وذلك في دولة السلطان محمد الشيخ، فأخذت في فنون أخرى كالأصول والمنطق والكلام، وتركت العربية، ثم إني دخلت السوس الأقصى واتصلت بشيخنا أبي فارس عبد العزيز أحمد الرسموكي رحمه الله، فوجدت أهل تلك البلاد يشتغلون بتصريف الأفعال ويستحضرون معها النصوص من الخلاصة ونحوها، فحضرت معهم فإذا أبيات الخلاصة تشذ عن فكري لطول العهد بها، فلما رأيت ذلك أحببت أن أحدث عهداً بها فقلت للطلبة: من أحب أن يسمع الخلاصة فليأتني، فشرعنا فيها، وكنا نجلس إليها بعد العشاء الآخرة بساعة " أو أكثر " فنقطع الليل كله في المجلس، وأنقل كل ما في شرح المرادي بأكمل التقرير والتحرير، وختمناه في نحو شهر وعشر ليال، وفي الليلة التي ختمناها نمت فرأيت فيما يرى النائم العذرة تخرج من جوفي على فمي كحالة القيء متصلة حتى انفصلت عني فلما انتبهت وقع في فكري أن ذلك هو الجهل بذلك الكتاب أو ذلك العلم خرج عني، فسرني ذلك، وفهمت من تصوير ذلك بصورة النجاسة أن الجهل قبيح وأن العلم كله حسن محتاج " إليه "، فإنه إما مقصود لذاته فيما تعبد به العبد، وإما معين على ذلك نوع إعانة، فمتى صلحت النية كان الجميع قربة وعبادة، ولقد حدثونا عن بعض الفقهاء ممن كان يواصل أشياخنا رحم الله الجميع وكان يدرس للطلبة الكتب المتداولة في الفقه والنحو والكلام وغير ذك من الفنون أنه توفي وأنه ريء بعد موته وسئل عما فعل الله به فأخبر أنه أثيب على كل كتاب من تلك الكتب بحمد الله، وذلك لصلاح نيته.
وقد كنت دخلت يوماً على أستاذنا الإمام أبي عبد الله بن ناصر - رضي الله عنه - وكان يوم جمعة فوجدته في روضة الأشياخ، وإذا هو يقرىء لأولاده " ديوان الشعراء الستة " ويطرر على النسخة ما يحتاج من شرح الغريب ونحو ذلك، فقلت في نفسي: هذا يوم الجمعة يعتني فيه بالإقبال على العباد لشفوف فضله، وهذه الروضة موضع ذكر واعتبار، والشيخ - رضي الله عنه - أعرف، عنده النهاية في كل ذلك، فعلمت أن ذلك إنما كان لصلاح النية وصحة الإخلاص وذهاب الهوى، فكان كل ذلك عبادة أياً كان وفي أي موضع كان، ولهذا يقول أئمة الدين: إن علامة من يأخذ في العلم لله تعالى أن " لو " قيل له غداً تموت لم يطرح الكتاب من يده أي لكونه دخله بوجه صحيح، ولو كان أخذه فيه بالهوى لفر عند الإحساس بالموت عنه إلى الصحيح، وهكذا في جميع التصرفات.
ولهذا كان بعض مشايخ الصوفية من ناحية العراق أخذ يبذر أرضاً فمر به بعض الأولياء طائراً في الهواء، وذلك في عشية ليلة عرفة فقال له الأول: إلى أين تريد؟ فقال: إلى الحج، فهل لك فيه؟ فقال: إني نويت أن أحرث هذه الأرض، وامتنع من الذهاب إلى الحج، وذلك لأنه دخل في هذا العمل بنية صحيحة فلم يكن ليتركه، وفي الحديث الصحيح:" إنّمَا الأعْمَالُ بالنّيّاتِ ". وقال تعالى:) ولا تُبْطِلُوا أعْمَالَكُمْ (وفي الحديث الآخر: " يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ وَفِيِهمْ أسْوَاقُهُمْ ثُمَّ يُخَفُ بِهِمْ وَيُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلى نِيّاتِهِمْ ".
لله الأمر من قبل ومن بعد
[تأخير الصلاة]
حدثني الأخ الفاضل أبو الحسن علي بن أحمد الرماني قال: كان سيدي محمد الشرقي التادلاوي يوماً مع جماعة من إخوانه فحان وقت الصلاة فجاء المؤذن يؤذنه بالصلاة فتغافل عنه، ثم رجع إليه ثانياً وثالثاً، فلما ضاق الأمر بالمؤذن شرع في إقامة الصلاة من غير إذن، فقال له الشيخ: ما أعجلك؟ إن الصلاة تقضى أو تدرك، ومجلس الأخوان لا يقضى.