كان الشيخ الصالح أبو محمد الحسين بن أبي بكر رحمه الله ينشدنا كثيراً تحريضاً على جميل الصبر، وتعريفاً بتقلبات الدهر، ونحن إذ ذاك صبيان قول الشاعر:
ثمانية تجري على الناس كلهم ... ولا بد للإنسان يلقى الثمانيه
سرور وحزن واجتماع وفرقة ... ويسر وعسر ثم سُقْمٌ وعافيه
ونحو قول أبي الطيب:
على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة ... وميْتٌ ومولود وقالٍ ووامق
فهذه أحوال تعرض لابن آدم على التوارد، لا يسلم منها في الجملة، ولا تنحصر لبقاء العز والذل والقوة والضعف والحركة والسكون، وغير ذلك مما لا يحصى، وكثير منها يصلح رده إلى ما ذكر بضرب من التأويل، ولو اشتغلنا بتفصيل ذلك وشرحه لغة واصطلاحاً لطال واحتاج إلى ديوان وحده أو أكثر، فلنقتصر على الإجمال مع الإلمام.
فالأول وهو السرور والحزن فنقول: هما مترتبان على المحاب والمكاره، ومن المحبوب فوات المكروه ومن المكروه فوات المحبوب، والإنسان لا يخلو من أن يظفر بمحبوب فيسر به أو يفوت فيحزن، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم يوماً في البيت يعمل عملاً فنظرت إلى وجهه صلى الله عليه وسلم، وهو يتهلل أو كما قالت، فقلت يا رسول الله أنت والله أحق بقول أبي كبير، تعني الهذلي:
ومُبَرَّأٍ من كلِّ غُبَّر حيضة ... وفساد مرضعة وداءٍ مُغْيِلِ
وإذا نظرت إلى أسِرَّة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
قالت: طرح ما في يدي وأخذني وقبل ما بين عيني وقال صلى الله عليه وسلم: يا عامر ما سررت بشيء كسروري بك. وقد ذكر القصة في الإحياء، وقال صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر، وقد قدم عليه جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه فعانقه: لا أدري بمَ أُسَرّ أبفتح خيبر، أم بقدوم جعفر؟ وقال صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم: " العَيْنُ تَدْمَع، وَالْقَلْبُ يَحْزَن، وَلا نَقُول إلاّ مَا يُرْضي رَبَّنَا، وإنّا بِفِرَاقِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزونُونَ ".
ثم الإنسان في أيام دهره لا يكاد يخلو من سوء، فإن الدنيا دار بلاء ومحنة، ولا سيما في حق المؤمن الذي هي في حقه سجن، فقد قال الله تعالى:) وَلْنَبْلُوَنَّكُمْ حتّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ (. وقال الله تعالى:) الم، أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلْيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلْيَعْلَمَنّ الكَاذِبِينَ (وقال تعالى:) وَلْنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَمَرَاتِ (وقال تعالى:) لَتُبْلَونَّ في أمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَلْتَسْمعُنَّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَذِينَ أَشْركُوا أذى كَثِيراً (إلى غير ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم: " أشَدَّكُمْ بَلاءً الأنْبِيَاءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فَالأمْثَلُ ".
وقال الشيخ أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه: أصلت لنفسي أصلاً فلا أبالي بعده، وهو أني قدرت أن هذا العالم كله شر، ولا يلقاني منه إلاّ الشر، فإن لقيني الخير فنعمة مستفادة، وإلاّ فالأصل هو الأول.
ومن غريب ما اتفق في هذا المعنى أن بعض الملوك نظر في كتاب الحكمة فإذا فيه: إن الدهر لا يخلو من المصائب، وإنه لا يصفو فيه يوم من كدر فقال: لأكذبن هذا. وأعد ليلة لسروره. وأحضر فيها كل ما يحتاج، وكانت عنده جارية حظية هي مجمع لذته، ومنتهى أنسه، فأحضرها لذلك، وأمر أن تصرف عنه الصوارف وتقطع عنه الأشغال ليتفرغ لمتعته وأنسه، ويقضي الأرب كله من هوى نفسه، فحين أمسى كان أول ما قرب للجارية العنب، فأخذت حبة وجعلتها في فيها فغصت بها، وكان ذلك آخر العهد بها.
فلم يرَ الملك أمرّ من تلك الليلة، ولا مصيبة ولا هما ولا حزناً أفظع مما فيها فسبحان القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
[مقام الشكر]
ومقام الصبر عند الصوفية العارفين