أما شهوة الناس في الرياسة مثلاً فواضحة لما مر غير مرة من تعشقها لصفات الألوهية، ولذا يقال: دعوى فرعون الألوهية في ضمير كل أحد مع تعشق ما يتوهم من ثمرات ذلك من التنعم والترفه والاحتواء على الدنيا وأهلها، ونفرتها عن ذلك بتوقع ما فيه عادة من المتاعب والمعاطب وإيثار راحة القلب والبدن، وتشتعل الشهوة وتتقوى بعلو الهمة في الدنيا وقوة الحرص وشهامة النفس وتضعف بضعف ذلك، ومصلحة ذلك في الدنيا إطفاء الفتن، وإخماد الإحن، وقمع البغاة، وإغاثة ملهوف، وإنصاف مظلوم، وتهدين السبل، كما قال عبد الله بن مبارك رضي الله عنه:
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفُنا نَهْباً لأقوانا
وجباية الأموال وتحصيناً وقسم الأرزاق على أهلها إلى غير ذلك، وفي الدين إقامة الصلاة والزكاة والجهاد ونشر العلم وكفاية أهله ونحو ذلك. وفي مطلق الشهرة في الدنيا السعي في مصالح الناس والمسادة بينهم وغير ذلك، وفي الدين نصح المستنصحين، وتعليم المتعلمين، وهداية الضالين، وتربية المريدين، وغير ذلك، وفي حديث الهداية يقول صلى الله عليه وسلم لعلي - كرم الله وجهه -: " لأنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ". والمفسدة في ذلك في الجملة ظلم العباد، والسعي في الأرض بالفساد، وتضييع الحقوق، وإظهار العقوق، وإضلال الناس، والتحريف والإلباس، وشهوة النفس في الخمول والضعة إيثار الراحة والسلامة كما مر في مقابله:
وقائلة ما لي أراك مجانباً ... أموراً وفيها للتجارة مربح؟
فقلت لها: ما لي بربحك حاجة ... فنحن أناس بالسلامة نفرح
ونفرتها عنها لعدم الحظ السابق، والمصلحة في ذلك بانتفاء المفسدة التي في المقابل، وذلك كله واضح، فقد تبين ما هو حظ النفس فس البابين، فقد تدعو إلى جانبٍ موهِمةً أنها تريد استحصال مصلحته والتخلص من المفسدة في مقابله، وهي إنما تريد حظها الطبيعي منه، والشيطان يحثها إلى ذلك طلباً لحصول المفسدة التي فيه وفوات المصلحة التي في المقابل، وعلى البصير الحازم أن يزُمَّ نفسه بزمام التقوى، ويزينها بميزان العدل، وينتقدها بسراج الهدى، ويصفيها من بهرج الهوى.
فإذا دعته مثلاً إلى طلب الرياسة والقيام بالأمر موهمة أنها تريد جمع الكلمة ولإقامة الشريعة وبسط العدل وكف الظلم ونحو ذلك فلا ثق بها في هذه الدعوى حتى يمتحنها فإنها تدعي أنها لم ترد متعة الدنيا وإنما طلبت استحصال الأجر والدرجة عند الله تعالى فيكفيك في امتحانها شيئان: أحدهما أن تعاقدها فيما تدعو إليه بأن تقوم فيه أشعث أغبر لا تنال مما يناله من دخل ذلك من أهل الدنيا عادة من مطعوم ولا ملبوس ولا مركوب ولا منكوح ولا مسكون ولا عظمة، وأنك تكون كواحد من الناس لا تتميز عنهم إلاّ بما تحملت من المشاق والمتاعب والهموم في مصالحهم كما كان حال الخلفاء - رضي الله عنهم - حتى إنك لو كنت في رفاهية قبل ذلك تركتها شغلاً عنها كما كان فعل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فقد حكي أنه قبل الخلافة اشتريت له حلة بنحو أربعين أو سبعين ألفاً فجسَّها فقال: ما أحسنها لولا خشونة فيها! ولما ولي الأمر اشتريت له حلة بنحو أربعة دوانق فجسها فقال: ما أحسنها لولا لينها! فقيل له ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن نفسي ذوّاقة تواقة كلما ذاقت مكانة تشوقت إلى غيرها، فلما حصلت الخلافة تاقت إلى ما عند الله تعالى، وسمع البكاء يداره حين ولي، فدخل مسلمة بن عبد الملك إلى أخته فاطمة زوجة أمير المؤمنين فسألها عن ذلك فأخبرته أن أمير المؤمنين دخل عليهن فقال: إني قد شغلني عنكن ما نزل بي، يعني من الخلافة، فمن أحبت منكن أن تصبر على ذلك فلتصبر - رضي الله عنه -، وجعلنا في حماه.