وفي الحديث القدسي: " لَمْ يَسَعْني أرْضي وَلا سَمَائي، وَوَسِعَني قَلْبُ عَبْدِي المُؤْمِنِ ". والوجه وجهه، والضمائر تعود اليه، وهاهنا مزلقة تقشعر منها الرؤوس، وتشمئز النفوس.
حكى الإمام الرازي - رحمه الله - في كتاب " الإشارات في التعبير "، قال: أخبرنا أحمد بن عمرو الصوفي بمكة - حرسها الله - قال: أخبرني أبو بكر الطوسي، قال: قال عثمان الأحول تلميذ الخراز - رضي الله عنه -: بات عندي أبو سعيد، فلما مضى بعض الليل صاح بي: يا عثمان، قم أسرج، فقمت وأسرجت، فقال لي: ويحك رأيت الساعة كأني في الآخرة والقيامة قد قامت، فنوديت فوقفت بين يدي الله تعالى وأنا أرتعد، لم يبق علي شعرة إلاّ وقد قامت، فقل " جل وعلا ": أنت الذي تشير إليّ في السماع وإلى سلمى وبثينة، لولا أني أعلم أنك صادق في ذلك لعذبتك عذاباً لم أعذب به أحد من العالمين، انتهى. فنعوذ بالله من جسارة، تؤدي إلى خسارة. وقد وقع في هذا الخطر ابن الفارض، وابن سبعين والششتري وأضرابهم، وهو باب ضنْك، وللعبد في مطرح النعال، سعة عن جناب الكبير المتعال.
وقد يكون السامع في فهمه أخف حالاً من المعبر، فإن الفهم أقرب إلى الغلبة، والتعبير أقرب إلى الاختبار، ومثال ما سنح في فكري مما حضر لي الآن قول امرئ القيس:
" الله أنجح ما طلبت به ... والبِرّ خير حقيبة الرجل
شرحه وقوله ":
أنا موضعين لحتم غيب ... ونسحر بالطعام والشراب
فإن هذه القطعة موعظة عظيمة في ذكر الآخرة والزهد في الدنيا وإن لم يقصد نفس ذلك المعنى، ويزيد العاقل فيقول: هذا رجل دهري " كان " لا يؤمن بيوم الحساب، قد مقت الدنيا لمجرد ما رأى من الانتقال عنها إلى الفناء، فكيف لا يمقتها من يؤمن بالجنة وأن الدنيا لا تساوي شيئاً إذا قيست إليها ولا تزن عند الله جناح بعوضه، وان الاشتغال بها " يعوق " عن الملك العظيم، والنعيم المقيم، ويعرض للحساب الشديد والعذاب الأليم، وقوله:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فإن العابد يفهم منه أنه لو كان يسعى لمعيشة الدنيا الحسيسة الفانية لكفاهُ أدنى شيء، ولكنه يسعى للملك العظيم، في دار النعيم، وهو المجد حقاً، فليس إلاّ الجدّ والاجتهاد، ومسامرة النوافل والأوراد، والعارف يفهم منه أنه لو كان يسعى لمجرد التنعم في الجنة لكفاه إقامة الرسم الشرعي، والوقوف عند الحد المرعي، ولكنه يسعى للوصول والنظرة، والحضور والحضرة، فليس إلاَّ زيادة الاعتناء بصفاء الأسرار، والفناء عن الأغيار، وقوله:
تنورتها من أذرِعاتٍ وأهلُها ... بيثربَ أدنى دارِها نظر عال
فإن المريد قد يفهم منه " أن " الضمير للحقيقة، وأهلها بيثرب وهم محمد وأصحابه صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة أجمعين. وكون نيل ذلك من أذرعات وهو موضع بالشام " مناسب، لأن الشام " مكان مرتفع باعتبار الغور، وليس يبلغ السالك ذلك إلاّ بعد بلوغ المنزلة الرفيعة " من الاستقامة والطهارة ومن الهمة " الرفيعة فإن العبد يفتح له على قدر همته وبنظره العالي يقرب الفتح بإذن الله تعالى، بل النظر العالي وهو ما يكون إلى الحق دون شيء دونه هو كلية الأمر وعماده، رزقنا الله منه قسطاً وافراً بمنه آمين.
وقول عنترة:
وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد ... لا أتبع النفس اللّجوج هواها
فإن هذا في باب العفة والتحلي بمكارم الأخلاق في الجملة صريح، وباعتبار الرياضة والمطلوب من التحلية والتخلية عند السالكين إشارة، وهي كافية في المقصود، لأن مخالفة الهوى هو ملاك الأمر كله، ومثل هذا لا ينحصر في شعر العرب " فقلما يخلو بيت أو أبيات من معنى أو معان فإن الحكمة قد أنزلت على ألسنة العرب ".
وقد قال الله تعالى في الشعراء:) أنّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (ومثل ذلك في كلام المولدين، وقد تقدم من شعر أبي نواس، وفال أبو الطيب:
لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت وهنّ منكِ أواهلُ
فإنه يفهم منه سوى مقصود الشاعر أمور: