رجعنا إلى الحديث الأول قال: ووجدت الفقيه أبا العباس المذكور قد وقع بينه وبين طلبة العلم من أهل مصر شحناء عظيمة، وحدث أن سببها اتفاق غريب، وهو أنه حضر ذات يوم سوق الكتب وهو إذ ذاك لم يعرف، فوقع في يده سِفْرٌ من تفسير غريب، ففتح على " تفسير " سورة النور. فإذا هو قد تعرض لمسألة فقهية غريبة، وذكر فيها اختلافاً وتفصيلاً وتحقيقاً، فحفظ ذلك كله على الفور، وكان رجلاً حافظاً، ثم اتفق عن قريب أن اجتمع علماء البلد في دعوة وحضر معهم، فلما استقر بهم المجلس إذا سائل في يده بطاقة يسأل عن تلك المسألة نفسها، فدفعت للأول من أكابر أهل المجلس، فنظر فكأنه لم يحضره فيها ما يقول، فدفعها لمن يليه، ثم دفعها الآخر للآخر وهكذا حتى بلغت أبا العباس المذكور، فلما تناولها استدعى الدواة فكتب عليها الجواب بنحو ما حفظ، فجعلوا ينظرون إليه متعجبين، فلما فرغ تعاطوها فقالوا: من ذكر هذا؟ فقال لهم: ذكره فلان في تفسير سورة النور، فالتمسوا التفسير فإذا الأمر كما ذكر، فدخلهم من ذلك ما هو شأن النفوس.
قلت: وليس هذا ببدع، فما زال هذا الجنس يتحاملون على من توسموا فيه شفوفاً عنيهم، أو مزاحمة في رتبة أو حظ إلاّ من عصمه الله، وقليل مثلهم.
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغضاً أنه لدَميمُ.
وقد أفتى بعض الفقهاء أنه لا تقبل شهادة بعضهم على بعض لهذا المعنى، ولا شك أنه " ليس " على العموم، ولكنه شائع معلوم.
فمن ذلك ما وقع للإمام سيبويه مع أهل الكوفة، وقصته مشهورة.
وما وقع لسيف الدين الآمدي مع أهل مصر، فإنه لما برز عليهم في العلوم أنكروه ونسبوه إلى الأهواء، وكتبوا عليه رسماً بذلك، فكانوا يدفعونه بعضهم لبعض ليوقعوا فيه الشهادة على ذلك، فكانوا يشهدون حتى انتهى إلى بعض من وفقه الله وعصمه فوقع تحت الشهادات.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
وقد تناهى به ذلك حتى خرج من مصر.
وما وقع للفقيه محمد بن تومرت المعروف بالمهدي إمام الموحدين، فإنه دخل مدينة مراكش مَقْفَلَهُ من المشرق، فحرَّك العلوم العقلية، وكانوا أهل بادية لا يعرفون ذلك، فقالوا: هذا أدخل علينا علوم الفلاسفة، ووَشوا به إلى اللمتوني حتى كان من أمره ما كان.
و" مثله " ما وقع للإمام أبي الفضل بن النحوي حين دخل سجلماسة فجعل يدرس أصول الدين وأصول الفقه، فمر به عبد الله بن بسام أحد رؤساء البلد فقال: ما العلم الذي يدرسه هذا؟ فأخبروه، وكانوا قد اقتصروا على علم الرأي فقال: هذا يريد أن يدخل علينا علوماً لا نعرفها، وأمر بإخراجه، فقام أبو الفضل ثم قال " له ": أمَتَّ العلمَ أماتك الله ههنا، قالوا: وكانت عادة أهل البلد أن يعقدوا الأنكحة في المسجد، فاستحضروا ابن بسام لعقد نكاح صبيحةَ اليوم الثاني من ذلك اليوم، فخرج سَحَراً وقعد في المكان المذكور، فمرت عليه جماعة من ملوانة إحدى قبائل صنهاجة فقتلوه برماحهم، وارتحل أبو الفضل إلى مدينة فاس فتسلط عليه القاضي ابن دبوس ولقي منه ما لقي من ابن بسام، فدعا عليه أيضاً فهلك، ولما رجع إلى وطنه القلعة واشتغل بالتقشف تسلط عليه ابن عصمة أيضاً فقيه البلد بالإذاية.
وهذا النوع أعني الفقهاء ولا سيما أرباب المناصب منهم كالقضاة لم يزالوا متسلطين على أهل الدين كما وقع لهذا، وكما وقع للقاضي ابن الأسود مع الإمام العارف أبي العباس بن العريف ولابن " أبي " البراء مع القطب الجامع أبي الحسن الشاذلي وكلهم قد أخذهم الله بذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة، نسأل الله تعالى العصمة من اتباع الهوى، ونعوذ بالله أن نظلم أو نظلم، إنه الحفيظ الرحيم.