للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وما الفخر بالعظم الرّميم وإنما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسه

وقال الآخر:

كن ابن من شئت واتخذ أدباً ... يغنيك محمدة عن النسب

إن الفتى من يقول: هأنذا ... ليس الفتى من يقول: كان أبي

إلى غير ذلك مما لا ينحصر.

والحق أن كرم النسب فضيلة قال تعالى:) وكان أبُوهُما صَالِحاً (وقال صلى الله عليه وسلم في بنت حاتم: " إنَّ أبَاهَا كَانَ يُحِب مَكَارِمَ الأخْلاق ". ووصفُ الإنسان وسعيُه هو الشأنُ، والنسبُ زيادة، فإلغاء النسب رأساً جور، والاقتصار عليه عجز، والصواب ما قال عامر بن الطفيل:

وإني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب

فما سودتني عامر من وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب

ولكنني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكبي

فقوله: " وإن كنت ابن سيد عامر " تعريض بالنسب وإعلام بمكانته منه، وقوله: " أبى الله أن أسمو بأم ولا أب أي فقط دون شيء يكون مني ليوافق ما قبله فمراده أني لا أكتفي بالنسب وأخلو عن استحصال الحمد وابتناء المجد.

ومثله:

لسنا وإن أحسابُنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل

نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا

وقال الآخر:

أنا الفارس الحامي حقيقة وائل ... كما كان يحمي عن حقائقها أبي

وقال زهير:

وما يكُ من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل

وهل يُنبتُ الخطِّيُّ إلاّ وشيجه ... وتغرس إلاّ في منابتها النخل

وقال الملك الراضي من ملوك بني العباس:

لا تعذلي كرمي على الإسراف ... ربح المحامد متجر الأشراف

أجري كآبائي الخلائف سابقاً ... وأشيد ما قد أسَّسَتْ أسلافي

إني من القوم الذين أكفّهم ... معتادة الإخلاف والإتلاف

فهذا وأبيك الفخر العلي البنيان، المتأسس الأركان.

واعلم أن الناس في هذا الباب ثلاثة: رجل كان أصيلاً ثم قام هو أيضاً يشيد بنيانه ويحوط بستانه، كالذي قبله، فهذا أكرم الناس وأولاهم بكل مفخر، وفيه كان قوله صلى الله عليه وسلم: " الكَرِيمُ ابْنُ الكَرِيمِ " كما مرّ، والذروة العليا في هذا الصنف هو نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أصيلاً بحسب النبوءة من عهد إبراهيم وإسماعيل، ثم لم تزل أسلافه في شرف وسؤدد، ومجد مخلد، معروفاً ذلك لهم عند الناس، وأنهم أهل الحرم، وجيران الله، وسَدَنَةُ بيته، مع إكرام الضيف، وإعمال السيف، وغير ذلك من المفاخر العظام، والمآثر الجسام، وقد اختصهم الله بين العرب بالاحترام والتوقير، وجعل لهم رحلة الشتاء والصيف آمنين لا يعرض لهم لص ولا مغير، فأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف كما أخبر به تعالى في كتابه، وذكر ذلك بعض بني أسد فقال:

زعمتهم أن اخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلافُ

أولئك آمنوا جوعاً وخوفاً ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا

أي أخطأتم في هذا الزعم، لأنكم لستم مثلهم، وقولهم: إلاف مصدر على فعال، يقال آلفته مؤالفة وإلافاً وتآلفاً، وليس من آلفته الشيء إيلافاً كالذي في القرآن.

ثم لما جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم رد بدر شرفهم فجراً، وجدول كرمتهم بحراً، بل جعلهم قرار كل مجد، ومركز كل حمد، وقد أكمل به الله تعالى الدين، فكذلك أكمل به سائر المحامد والمحاسن، قال صلى الله عليه وسلم: " بُعِثْتُ لأتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلاقِ " وهو صلى الله عليه وسلم لبنة التمام، فشرفت به قريش خصوصاً والملة كلها عموماً صلى الله عليه وسلم، ومجد وعظم، وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا كله مع الإشارة إلى التدريج السابق بقوله: " إنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ ولدِ إبْرَاهِيمَ إسْمَاعِيلَ، واصْطَفَى مِنْ ولدِ إسْمَاعِيلَ بَني كِنَانَةَ، واصْطَفَى مِنْ بَنِي كنَانَةَ قُرَيْشاً، واصْطَفَى منْ قُرَيْشٍ بَني هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي منْ بَني هَاشِمٍ ".

ورجل لا أصل له ينتمي إليه، ولا حسب يُعَرِّجُ عليه، ولكن انتهض في اقتناء المآثر، واقتناص المفاخر، حتى اشتهر بمحاسن الخلال، وصار في عداد أهل الكمال، وأنشد لسان حاله فقال:

وبنفسي شرفت لا جدودي

فهذا أحرى أن يشرف بوصفه وحاله، وأن يشرف به من بعده، وأن يكون هو أساس بيته، وعرق شجرته.

<<  <   >  >>