فتنكروا من هذا الاسم، وجعل الواحد منهم إذا سئل يقول: كعبي مخافة أن يسخر منه ولهم معه في ذلك قصة مشهورة بين يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ثم قد يفيض شرف الإنسان حتى يستطيل على من قبله من سلفه فتَحْيا رسومهم بعدما كانت دائرة، وتعمر ربوعهم بعدما كانت غامرة، والذروة العليا أيضاً فيمن عاد شرفه على من قبله هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما مرّ شرحه.
وقد أشار إليه ابن الرومي بقوله:
قالوا: أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلاّ لعمري ولكن منه شيبان
تسمو الرجال بآباءٍ وآونَةٍ ... تسمو الرجال بأبناءٍ وتَزْدان
وكم أبٍ قد علا بابن ذُرى حسب ... كما علت برسول الله عدنان
وادعى هذا الوصف أبو الطيب فقال:
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي افتخرت لا بحدودي
أما شرفه هو في بابه فلا ينكر، وأما شرف قومه به فالشعر أعذبه أكذبه، وإلاّ فالحكم على الشيء فرع تصوره، نعم، كان من عادة العرب أنه إذا نبغ شاعر في قوم اعتزوا به، واحتموا عن الشعراء، فلو تحقق لأبي الطيب قوم لكانوا كذلك.
ورجل له أصل وقديم شرفٍ ثم لم يبنه ولم يجدده، وهو إما أن تخفى عوامله فلم يبن ولم يهدم، مع أنه بالحقيقة من لم يكن في زيادة فهو في نقصان، والمراد أن يرجع إلى غمار الناس فلا يحدد المآثر، ولا يخرج إلى المعايب، فهذا لا فضيلة له إلاّ مجرد النسب والفخر العظاميّ كما مر، وإما أن يهدمه بملابسة ضد ما كان أولاً، فهذا بمنزلة من هدم الدار ثم حفر البقعة أيضاً فأفسدها، فهذا مذموم بما جنى على نفسه وبما جنى على حسبه ونسبه والذروة العليا في هذا الصنف اليهود والنصارى ونحوهم، فقد هدموا أنسابهم وأحسابهم بشر الخصال، وهو الكفر، نسأل الله العافية.
ومن هذا النمط من يخلف آباءه الصالحين بالفسق وكثرة الرغبة في الدنيا والكبر والدعوى وغير ذلك من القبائح كما هو شأن كثير من أولاد الصالحين في زماننا نسأل الله العافية، وفي هذا الصنف قيل:
لئن فخرت بآباء لهم شرف ... لقد فخرت ولكن بئس ما ولدوا
وقال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب
وقال الآخر:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خَلْفٍ يزيِّن بعضُهم ... بعضاً ليست مُعْوِرٌ عن مُعْوِرِ
الرابع - قد يقال فيما ذكرناه من النسب: إنه من النسب الطويل وهو عيب ويذم بضده وهو النسب القصير قال الشاعر:
أنتم بنو القصير، وطولكم ... باد على الكبراء والأشراف
والنسب القصير هو أن يقول: أنا فلان ابن فلان، فيعرف لكون أبيه أو جده الأدنى من الأعيان، والطويل هو ألاّ يعرف إلى رأس القبيلة.
والجواب أولاً أننا لم نذكر النسب افتخاراً حتى يعرض على هذا المقياس، وإنما ذكرناه لاحتياج إليه في المصالح الدينية والدنيوية عند أهله وثانياً أن كون الإنسان من الأعيان أمر إضافي كما مرّ أنه قد يكون من أعيان عشيرته أو قومه وهو الأغلب، وقد يكون من أعيان عمارته أو إقليمه أو جيله، وهو عزيز الوجود، ولا شك أن شرف الإنسان واشتهاره باعتبار عشيرته أو قومه إنما يعرف فيهم ولا يضيره ألاّ يعرفه غيرهم، لأن سادات العرب لا يعرفهم العجم، ولا العكس، وكذا فيما بين العرب غالباً، وقال الشاعر:
طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا
وقال الآخر:
ليس العبيّ بسيد في قومه ... لكنّ سيد قومه المتغابي
ولم يخرج عن هذه الإضافة الملوك كما قال النابغة:
وللحارث الجفنيّ سيد قومه ... ليبتغين بالجيش دار المحارب
وقالت هند بنت عتبة رضي الله عنها لمن قال لها في ابنها معاوية رضي الله عنه: أرجو أن يسود قومه: ثكلته إن كان لا يسود إلاّ قومه، وذلك أنها سمعت قبل ذلك من الكهان أنها تلد ملكاً اسمه معاوية في قصة مشهورة.
إذا تقرر هذا فالمنتسب معروف النسب قصيره، بحمد الله في قومه، وهو من صميمهم، وإنما رفعه ليعرف على ما تشعب عنه من الفصائل والبطون، وليعرف انقطاعه عند دخول القرى وغير ذلك من الفوائد التي مرت.
وأما ذكري لما مرّ من الكنى فلجريانها على ألسنة فضلاء مع التفاؤل ورجاء تحقق ما له معنى منها.