فولد أبو سعيد المذكور فانتفع ونفع حتى مات رحمه الله، وظهر أنه العين المذكورة لأبيه، وولدت أنا أيضاً، وقد كان لي أخوان أسن مني فماتا أميين رحمهما الله، فأرجو أن أكون تلك العين، وقد اتفق خروجي عن البلد كما قال رحمه الله، وكنت بعد ذلك حين ارتحلت في طلب العلم إلى ناحية السوس الأقصى غيبت عن الوالد رحمه الله أعواماً لا يدري أين أنا؟ فلما قفلت حدثني رحمه الله فقال: لما ضقنا من غيبتك رأيت كأن الناس يتجارون خلف فرس أشقر ليقبضوه، فجئت إليه أنا فأمسكته بلجامه، فلما استيقظت قلت للناس: إن الحسن ابني سيأتي وأجتمع به فكان ذلك، والفرس الأشهب عند المعبرين اشتهار بشرف وذكر، وقد حصل لي ذلك بحمد الله، نسأل الله سبحانه أن يكمل ذلك لنا وله ولسائر الأحباب بالفوز يوم الحشر والرضوان الأكبر، بجاه نبيّه المصطفى المبعوث إلى الأسود والأحمر، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه المجلين في كل مفخر.
وأما دعوة أستاذي، وهو شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، أبو عبد الله سيدي محمد بن ناصر، رحمه الله تعالى ورضي عنه، فهي تلك بعينها، وكان من حديثي معه في ذلك أنه لما تهيأ للتشريق في حجته الثانية أرسل إلي في حاجة أقضيها له مما يتعلق بسفره ذلك، وأنا إذ ذاك بالزاوية البكرية، فقضيت ذلك بحمد الله وسافرت به إليه حتى بلغته، فلقيني بترحيب، ورأيت منه بحمد الله إقبالاً خارجاً عن المعتاد حتى إنه متى ذكرت ذلك إلى اليوم يغشاني خجل وإشفاق على نفسي، وأقمت معه حتى شيعته لوجهته إلى أن جاوزنا سجلماسة بمرحلة، فرجعت إلى داري، ولما كنت ببعض الطريق ألهمت الدعاء له فاتخذت الدعاء له بعد أوراد الصبح وردا، فلما قفل من الحج ذهبنا إليه لنسلم عليه، فخلوت به يوماً وجعلت أطلب منه وأطلب، فقال لي رحمه الله: أما الدعاء فإني في سفرتي هذه ما دخلت مقاماً ولا مزارة، ولا توجهت إلى الدعاء لأحد إلاّ جاء بك الله تعالى في لساني أولاً، ثم لا أدعو لك إلاّ بهذا الدعاء: اللهم اجعله عيناً يستقي منها أهل المشرق وأهل المغرب، قال: حتى كنت أتعجب في نفسي وأقول: سبحان الله! بماذا استحق هذا الرجل هذا؟ ولمل صنفت القصيدة الدالية في مدحه وتهنئته بالحج أدخلها إليه ولده الفقيه الناسك الفاضل أبو محمد عبد الله بن محمد فخرج إلي وقال: يقول لك الشيخ: جعلك الله عيناً يستقي منها أهل المشرق وأهل المغرب، وشمساً يستضيء بها أهل المشرق وأهل المغرب، وهذا اللفظ يحتمل الدعاء والخير، نسأل الله تعالى أن يحقق لنا نحن وللمسلمين ذلك آمين.
ومن هذا ما كلمه جماعة من فقراء العرب وأنا حاضر معهم فقال لهم يشير إليّ هذا شمسكم، هذا ضوءكم، وهذا كله أصرح مما حكى تاج الدين بن عطاء الله عن شيخه القطب العارف أبي العباس المرسي رضي الله عنهما قال: جاء الشيخ مرة من سفر، فلقيناه فدعا لي وقال: فعل الله لك وفعل، وبهاك بين خلقه قال: ففهمت يعني من قوله وبهاك بين خلقه أني مراد بالظهور إلى الخلق.
وأعلم أن مواطأة دعوة الشيخ رضي الله عنه لرؤيا الوالد، مع كونه لم يحضر لذلك ولم ينقل إليه، من عجيب الاتفاق. قد ذكرت هنا ما وقع في الحديث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له: يا رسول الله عليه أخبرنا عنك فقال لهم: " أنا دعوة أبي إبراهيم عليه السلام، ورؤيا أمي ".
تنبه أيها الناظر، فإياك أن يختلج بفهمك، أو يخطر بوهمك، أني أنزع بهذه الحكاية قصداً إلى المحاكاة، معاذ الله، فإن درجات الأنبياء لا تنبغي لغيرهم، ولا يصل أحد إلى مزاحمتها، فكيف بسيد الأنبياء؟ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وعلى آله وعلى آل كل ثم إياك أيضاً أن تتوهم أن لا نسبة ولا نسب ولا شبهة ولا شبه فتقع في الغلو من الطرف الآخر، وقد قال صلى الله عليه وسلم " خَيْرُ الأمُورِ أوْسَطُهَا " ولا بد لهذا من تقرير فنقول: