واعلم أن هذه الأمور العادية يضل فيها العامة والقاصرون من الخاصة، أما العامة فإنهم إذا رأوا شيئاً عند شيء نسبوه إلى ذلك الشيء وغفلوا عن الله تعالى ولم يعلموا أن الله تعالى هو الفاعل وحده ولا تأثير لشيء من الكائنات بحال، فوقعوا في الشرك وفاتهم التوحيد، وأما القاصرون من الخاصة المعتقدين لانفراد المولى تعالى بالفعل وأن لا شريك له فإنهم يجرون على هذا المعنى وينكرون حكمة الله تعالى في أرضه وسمائه، فإذا قيل لهم: إن هذا الشيء يكون عند وجود هذا السبب قالوا: هذا لا معوَّل عليه، فإن السبب لا تأثير له، ووجوده وعدمه سواء. وهذا أيضاً جهل عظيم، فإن الله تعالى كما أنه قادر مريد لا شريك له كذلك هو حكيم يفعل أشياء عند أشياء ويرتب أسباباً ومسببات حكمةً منه تعالى ورفقاً بعباده في تأنيس نفوسهم بالأسباب المشهودة، فإن افيمان بالغيب وانتظاره عسير عليها وابتلاء لهم ليتيميز من انخرقت له الحجب فأبصر الحق، ومن حجب بها فتاه في أودية الضلال. نسأل الله تعالى العافية. ألا ترى إلى ما جعل تعالى لعامة الخلق من الشبع عند الأكل والري عند الشرب، والتدفي عند اللبس، والراحة عند الركوب، واللذة المخصوصة عند الوقاع، وهكذا مما لا يحصى، وكل ذلك يجوز من الله تعالى أن يخلقه بلا شيء. فهل ينكر أحد من العقلاء هذه الحكمة فيقول مثلاً: إن الطعام لكونه لا تأثير له وجوده وعدمه سواء، ويستجهل من يأكل ليشبع، وكذا ما جعله الله تعالى من المنفعة في الأدوية والعقاقير وما لها من الخواص، وألهم ذلك الأطباء وأهل التجاريب، فهل ينكر أحد ذلك؟ وكذا ما نحن فيه من كل أمر جرت العادة بوجود شيء عنده فلا ينكر بل يعتقد حكمة من الله تعالى مع صحة التوحيد، وهو أن لا ينسب إليه أثراً أكثر من أن وجوده سبب لبروز القضاء الأزلي عنده لا به، فمن نسب إلى شيء دون الله تعالى تأثيراً في وجود شيء أو عدمه فهو مشرك، ومن أنكر الحكمة المودعة في قوالب الكائنات فهو جاهل أعمى البصيرة، ولو لم يكن إلاّ جموده عن إدراك ما جرت به العادات وأفضحت به التجريبات لكان أمراً سهلاً، ولكنه إنكار لحكمة المولى سبحانه وبديع تصرفه في الكائنات الدال على إحاطة العلم والمشيئة بالمصالح والمنافع والمضار وعظمة الملك، فهو ينظر بإحدى العينين دون الأخرى، فمتى حكم التجريب مثلاً بأن يوماً من الأيام لا يسعد بحاجة من سافر فيه أو تزوج أو أخذ في سبب من الأسباب أو أنه يسعد فلا نبادر إذا سمعنا ذلك بإنكاره، ونقول قد أشرك مع الله تعالى، بل لا بأس بالاعتراف بذلك واعتباره عادة مع سلامة العقيدة من نسبة التأثير لليوم أو غيره من سائر الكائنات، والناس في نحو هذا ثلاثة: شخص يعتبره أخذاً وتركاً مع الغفلة عن الله تعالى، إما مع نسبة التأثير إلى السبب وهم المشركون، وإما بلا نسبة ولكن استغراقاً في الركوب إلى الأسباب والالتفات إلى الأغيار، وهو من الغافلين، وشخص لا يعتبره أصلاً استغراقاً في التوحيد والتوكل على الله تعالى والفناء عن الأسباب لا إنكاراً للحكمة، وهذا لا بأس به، وإذا صح توكله وتجرده عن الأسباب فذلك سبب لنجاته بفضل الله تعالى من مقتضيات العادة حتى إنه لو ألقم الحية رجله لم تضره، فإنه لما خرق العادة على نفسه بحسمها عن المألوفات وتجريدها عن الرعونات خرق الله تعالى له العادة بإعفائه عن جري العادات وما تقتضيه بإذن الله الأسباب الحادثات، وشخص يعتبر ذلك تأدباً مع الله تعالى في مراعاة الحكمة الجارية مع صحة العقيدة وصحة التوكل على الله تعالى عند الأسباب لا على الأسباب وهذا هو الكامل.
وكان صلى الله عليه وسلم يعالج ويستعمل الرُّقي وقد يكون من ذلك ما هو خفي يكون اعتباره تعمقاً في الأسباب فيترك، وجعل بعض الأئمة من هذا نهيه صلى الله عليه وسلم الأمة عن الكي مع الاعتراف له بأنه سبب من الأسباب.
إذا علم هذا كله فكل ما ورد من نصوص الشريعة وأقوال أهل الدين وفعلهم يتنزل على هذا، وبما قررنا يعرف عذر من اعتبر شيئاً من ذلك وعذر من لم يعتبر.