واعلم أنه في كل من المنام والغيبة يمكن أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسمع في تلك الحالة كلاماً يظنه من النبي صلى الله عليه وسلم سمعه، وهو إنما سمعه من ناحية أخرى فيبني على ذلك ويغر من سمعه، وكون الشيطان لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم ألا يوجب امتناع أن يحضر الشيطان في ناحية، ولا أن يتكلم هو أو إنسي آخر فيطرق ذلك أذن السامع وهو في حالته يعسر عليه الضبط فيظنه ما ذكرنا، إذا فهمت هذا فمن حدثك بأمر سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ونحوه فلا تعول عليه ولا بد، ولو كان المحدث صدوقاً، بل حتى يبرز، ثم أخلف ذلك فلا تحكم ولا بد بأن المحدث متحلِّم كاذب، بل قد يكون صادقاً في وقوع الرؤيا وإنما غلط فيما سمع فافهم، وما اشتهر في كلام الناس من " أن " الرؤيا التي يحضر فيها النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا حق لا حلم يسلم في الرؤيا نفسها لا فيما وراء ذلك من كلام وخطاب مثلاً، وإذا أمكن هذا في جانب النبوءة ففي الأولياء أقرب وأولى.
وأما ما يكون في اليقظة فيمكن فيه أيضاً الغلط في رؤية البصر بأن يكون المرئي خيالاً لا حاصل له كما يقع ذلك للمحموم وصاحب المَيْدِ وراكب البحر ونحوهم، وفي رؤية القلب كذلك وفي الخاطر بأن يكون شيطانياً أو مجرد حديث نفس أو قوة رجاء وظن أو نحو ذلك، إذا علمت هذا فأعلم أن الواجب على الإنسان في حق نفسه أن لا يغتر وأن يتهم رأيه، وفي حق غيره أن لا ينخدع لكل مبطل ولا يسيء الظن بكل مسلم، وفي هذا غموض لا يقوم به إلاّ اللبيب الموفق، ولا بد من شرح هذا " كله " بعون الله وتوفيقه.
فأما الإنسان في خاصة نفسه ففي باب الرؤيا إن رأى ما يكره فليتعوذ بالله كما جاء في السنة المطهرة وليقل: اللهم إني أعوذ بك من شر ما رأيت أن يضرني في ديني ودنياي فإنها لن تضره، وإن رأى ما يحب فهي مبشرة، وفي الحديث:" ذَهَبَتِ النُّبُوءَةُ، وَبَقِيَتِ المُبَشِّرَاتُ " ومع ذلك لا يغتر لما ذكرنا قبل ولهذا يقال: الرؤيا تسر ولا تغر.
وأما تحدثه فإن كان يتقي فيه فتنة أو غروراً أو عجباً لنفسه أو نحو ذلك فليكتم ذلك ولا يلتفت إليه، وإن لم يكن به " بأس " لنفسه ولا لغيره فليذكرها إن شاء " الله " بصورتها لا استغناء بمضمونها على زعمه، فإن خرجت على المراد فذاك، وإلا بقي بريء الساحة، وقد يعرض ما يقتضي ذكرها كاستدعاء أستاذه ذلك منه، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول:" مَنْ رَأى رُؤْيَا فَلْيّقُصَّهَا " أو أن يكون في ذلك للإخوان سرور ومزيد، وكان الشيخ أبو مهدي الدغدوغي - رحمه الله - يقول: لا تكتموا عن إخوانكم ما تشهدونه من الكرامات فإن ذلك يحبب إليهم طاعة الله تعالى، غير أن هذا مزلقة للنفس، فالحذر الحذر، والعاقل لا يعدل بالسلامة لنفسه شيئاً.
وأما في باب الغيبة فلا اختيار له " في حالتها كما لا اختيار له " في حالة النوم، ولكن بعد السكون يجب عليه أن يتحرز في حق نفسه وفي الإفشاء للغير كما في النوم وأكثر لأنها ملْعَبَة للشيطان إلاّ من عُصم، وليتحرز قبل ذلك من الوقوع في ذلك بتصحيح التقوى، وترك الدعوى، ومجانبة المخلطين والشاطحين المدعين.
وقد نقل الأخ أبو العباس زروق - رضي الله عنه - أن من اعتاد من نفسه الغيبة عند السماع أنه لا يحل له تعاطيه لأن حفظ العقل واجب، وبهذا تعلم حال متفقرة الوقت في طلبهم الخمرة، وما مثالهم إلاّ مثال سفيه مسافر وبين يديه قُطّاعٌ ومعه خفير يحميه منهم فَدسوا إليه من أغراه بقتل ذلك الخفير أو طرده عن نفسه، وذلك ليستمكنوا منه بلا مدافع، ففعل ذلك أو سعى في فعله سَفَهاً منه لقلة معرفته بمصالح نفسه ومكايد عدوه.