وقد روي أن امرأة من تلامذة الشيخ السري - رضي الله عنه - أرسلت ابناً لها في حاجة فوقع في النهر وغرق، فبلغ الخبر إلى الشيخ قبلها " فقال للجنيد: قم بنا إليها فأتياها فجعل الشيخ يكلمها في مقام الصبر " فقالت: ما أردت بهذا يا أستاذ؟ فقال: إن ابنك من أمره كذا أي مات، فقالت: ابني؟ ما كان الله ليفعل ذلك، ثم ذهبت تهرول إلى الماء فنادت يا فلان فقال: لبيك وخرج إليها يسعى، فنظر السري إلى الجنيد وقال: ما هذا؟ فقال: إن أذن الشيخ تكلمت، قال: تكلم، فقال: هذه امرأة محافظة على ما لله عليها، ومن شأن من كان كذلك أن لا يُحدِثَ الله أمراً حتى يعلمه، فلما لم يعلمها الله علمت أنه لم يكن.
ولذا قال بعض المشايخ للتلامذة: أيكم إذا أراد الله أن يحدث شيئاً في المملكة أعلمه إياه؟ قالوا: لا أحدَ مِناّ، فقال: ابكوا على قلوب لا تجد من الله شيئا أو نحو ذلك، وقد شهد الذوق أنه ما يتفق ذلك عادة على استقامة إلاّ بعد صفاء المداخل كلها، فيعم ما يتصل بمعدته من مطعوم، وبأُذنه من مسموع وبعينه من مَرئيٍّ وبلسانه من مقُولٍ إلاّ كدراً، ولا يثق أيضاً بما يقع له من التجلي في باطنه، فإن كل ما سوى الأنبياء عليهم السلام معرضاً للخطأ والغلط، وقد يتجلى الشيء بتمامه وقد ينتقص.
وضرب " الإمام " حجة الإسلام في الإحياء لذلك مثلاً وهو أن القلب في مطالعته اللوح المحفوظ بواسطة التجلي يكون كما لو كان بينك وبين جدار أو إنسان أو متاع ستر مرخىً، فإذا انسدل لم تر شيئاً من ذلك الجدار فترسله ولا ترى الباقي أو ترسله قبل أن تبين ما رأيت وهكذا.
قلت: ومن ثمَّ يقع لأهل الفراسة من الصالحين اختلال أو نقصان فيظن بهم الكذب، وإنما يؤتون من عدم التجلي كما ذكرنا أو من غلط في فهم خطاب أو نحو ذلك، وذلك مشهور.
وقد حدثونا عن صلحاء تادلا أنه لما قام على السلطان أحمد المنصور ابن أخيه أو ابن عمه الناصر قال سيدي أحمد بن أبي القاسم الصومعي: إن الناصر يدخل تادلا بمعنى دخول الملك، فلما بلغ الخبر إلى سيدي محمد الشرقي قال: مسكين بابا أحمد رأى الناصر قد دخل تادلا فظنها الناصر يدخل، فكان الأمر كذلك أنه هزم في نواحي تازا ثم قطع رأسه وجلب إلى مراكش فدخل تادلا في طريقه.
وعن صلحاء سلا أن رجلاً من رؤساء البحر جاء إلى سيدي علي أبي الشكاوي فشاوره على السفر في البحر فقال له: لا تفعل، وإن فعلت فلا تربح مالك ونفسك، وخرج من عنده فأتى سيدي عبد الله بن حسون فشاوره فقال له: سافر تسلم وتغنم. فسافر فاتفق عند دخولهم البحر أن أسرهم الروم فذهبوا بهم إلى أن لقوا بعض سفن المسلمين فوقع بينهم قتال فظهر المسلمون، فاستمكن هؤلاء من سفينتهم التي أسرتهم فقبضوا عليها وغنموها ورجعوا سالمين غانمين، ومثل هذا من أحوالهم كثير.
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني أنه لا ينبغي لمن يطالع ألواح المحو والإثبات أن يتكلم، وإنما يتكلم من يطالع اللوح بنفسه، وذلك لأن ما في اللوح لا يتبدل بخلاف الصحف فإنه يقع فيها التبديل كما قال تعالى:) يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثبتُ (فقد يخبر بما فيها ثم يمحوه الله تعالى فيختلف خبره ويدخل وهناً على الخرقة وتهمة بالكذب والدعوى.