ولهذا نص سيبويه على جواز مخالفته فتقول: ما فيها رجل بل رجلان، كما يعدل عن الظاهر في نحو: جاء الرجال إلا زيدا، وذهب المبرد إلى أنها ليست للعموم وتبعه عليه الجرجاني في أول شرح الإيضاح والزمخشري عند قوله تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف: ٥٩] وعند قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ}[الأنعام: ٤] نعم يستثنى من إطلاق المصنف سلب الحكم عن العموم كقولنا: ما كل عدد زوجا، فإن هذا ليس من باب عموم السلب أي: ليس حكما بالسلب على كل فرد, وإلا لم يكن فيه زوج وذلك باطل، بل المقصود إبطال قول من قال: إن كل عدد زوج وذلك سلب الحكم عن العموم، وقد تفطن لذلك السهروردي صاحب التلقيحات فاستدرجه وإذا وقعت النكرة في سياق الشرط كانت للعموم, أيضا صرح به في البرهان هنا وارتضاه الإبياري في شرحه له, واقتضاه كلام الآمدي وابن الحاجب في مسألة لا آكل. وقوله:"أو عرفا" هذا هو القسم الثاني من أصل التقسيم وهو عطف على قوله: لغة، أي: العموم إما أن يكون لغة أو عرفا كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: ٢٣] فإن أهل العرف نقلوا هذا المركب من تحريم العين إلى تحريم جميع وجوه الاستمتاعات؛ لأنه المقصود من النسوة دون الاستخدام ونحوه. ومثله قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة: ٣] فإن حملناه على الأكل للعرف, وفيه قول مذكور في باب المجمل والمبين أن هذا كله مجمل. قوله:"أو عقلا" هذا هو القسم الثالث, وضابطه ترتيب الحكم على الوصف، نحو: حرمت الخمر للإسكار, فإن ترتيبه عليه يشعر بأنه علة له والعقل يحكم بأنه كلما وجدت العلة يوجد المعلول، وكلما انتفت فإنه ينتفي، وأما في اللغة فإنها لم تدل على هذا العموم، أما في المفهوم فواضح, وأما في المنطوق فلما مر من أن تعليق الشيء بالوصف لا يدل على التكرار من جهة اللفظ، وههنا أمران أحدهما: أن صيغ العموم وإن كانت عامة في الأشخاص فهي مطلقة في الأحوال والأزمان والبقاع, فلا يثبت العموم فيها لأجل ثبوته في الأشخاص, بل لا بد من دليل عليه مثاله قوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}[التوبة: ٥] يقتضي قتل كل مشرك لكن لا في كل حال بحيث يعم حال الهدنة والحرابة وعقد الذمة بل يقتضي ذلك في حال ما, وما من مشرك إلا ويقتل في حال ما كحال الردة وحال الحرب, وهذه القاعدة ارتضاها القرافي والأصفهاني في شرحي المحصول وقرراها بهذا التقرير في الكلام على التخصيص وهي صحيحة نافعة، ونازع الشيخ تفي الدين في شرح العمدة١ في صحتها، وكذلك الإمام في المحصول فإنه قال في كتاب القياس جوابا عن سؤال: قلنا: لما كان أمر الجميع الأقيسة كان متناولا لا محالة لجميع الأوقات, وإلا قدح ذلك في كونه متناولا لكل الأقيسة, ويظهر أن يتوسط فيقال: معنى الإطلاق إنه إذا عمل به في شخص ما في حال ما في زمان ما فلا يعمل به في ذلك الشخص مرة أخرى، أما في
١ شرح العمدة في فروع الشافعية للشاشي الشافعي، وهو للشيخ تقي الدين محمد بن علي، المعروف بابن دقيق العيد، المتوفى سنة "٧٠٢هـ".