للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ونشير هنا إلى أن مظاهر هذه المطابقة، كما تتراءى في الألفاظ والعبارات، تظهر أيضًا في الوزن الشعري أو البحر العروضي الذي يختاره الشاعر، وفي القافية التي يؤثرها على غيرها١، وفي الصورة الخيالية التي يؤثر بها عواطفه، ليكون الأسلوب من روح المعنى وعلى مثاله من غير حاجة إلى ركوب الضرورات الشعرية٢.

ومع ذلك فإن حاولت الظفر بأمثلة لذلك رأيتها عند أمثال عبد الحميد الكاتب، وزياد بن أبيه، والبحتري ممن يعدون طبيعين في التعبير، ولم يتشبثوا بصنعه، ولم يحبسوا نفوسهم عند تعمق في المعاني، ولا تكلف في الألفاظ.

فهذا البحتري يذكر قتال الأقارب معًا، وما يلابسه من عواطفه متباينة؛ إذ يصطدم الحب والبغض، والشفقة والقسوة، وتمتزج الدماء بالدموع، بأسلوب لا يصلح غيره لتصوير هذه الحالة التي كانت بين تغلب مع دقة الصنعة:

أسيت لأخوالي ربيعة إذ عفت ... مصايفها منها، وأقوت ربوعها٣

بكرهي أن باتت خلاء ديارها ... ووحشًا مغانيها، وشتى جميعها٤

وأمست تساقي الموت من بعدما غدت ... شروبًا تساقي الراح رفهًا شروعها٥

إذ افترقوا عن وقعة جمعتهم ... لأخرى دماء ما يطل نجيعها٦


١ راجع الصناعتين ص١٣٣، ١٤١.
٢ راجع نقد الشعر لقدامه ص٥٦.
٣ أسيت: حزنت، وربيعة: أصل تغلب، أقوت: خلت.
٤ المغاني: المنازل، شتى: متفرقة.
٥ الشروب: القوم يشربون، رفه: لين، شروع: مورد الماء.
٦ يطل: بهدر، النجيع: الدم.

<<  <   >  >>