بعد أن يتوافر للكاتب دقة الفكرة ووضوحها، تكون خطوته الثانية مطابقة الأسلوب لإدراك القارئ، وهي تبدو في صور شتى من الرقة والجزالة أو السهولة والصعوبة حسب المعاني التي تؤديها العبارات. على أنه لو كانت الأفكار عويصة وجب على البليغ أن يحقق من السهولة أبعد درجاتها، ويكسب تراكيبه صفة الشفافية، لتكون كالزجاج الأبيض الصافي، يحفظ الرسم، وينم عنه كما هو أو كأنه لا زجاج يحميه.
والقانون الأساسي لتحقيق هذا الجلاء هو تحري البساطة في صوغ العبارات ومجانبة التعقيد، مع الاحتفاظ بسموها وقوتها. وهذا القانون نفسه متصل بالتكوين المنطقي والنحوي للأسلوب؛ هذا التكوين الذي يسلك الكلمات والجمل والعبارات في نظام لفظي هو صورة لنظام عقلي، وتفكير منطقي مطرد وهذه بعض القواعد التي تفيد في تكوين التراكيب الواضحة.
١- لا بد للبليغ من ذوق نحوي شديد، يحسن التألف بين الكلمات لتدل على معنى دقيق معين، وتسلم من هذين العدوين اللذين يفسدان الكلام؛ اللبس حينما يدل التركيب على معنيين ممكنين أو أكثر كقول المتنبي:
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدًا ... لمن بات في نعمائه يتقلب
فقد يكون معناه -بناء على عود ضمير نعمائه على من الثانية- أن أشد الظالمين ظلما من تقلب في نعمة إنسان ثم بات يحسده عليها، وقد يكون المعنى -بناء على عودة ضمير نعمائه على من الأولى- أن أشد الناس ظلما من أولى إنسانا نعمة ثم حسده على تمتعه بها، فهو الواهب وهو الحاسد، والمعروف أن الشاعر لم يرد إلا معنى واحدًا ولكنه يحترس من الثاني. ثم الغموض حينما لا يدل التركيب على معنى معين دلالة قاطعة كبيت جرير السابق عند النقاد السابقين.
ومن خير العبارات التي لوحظ فيها هذا التكوين النحوي السديد ما كتبه أخ إلى أخيه:"ابتدأتني بلطف من غير خبرة، ثم أعقبتني جفاء من غير هفوة، فأطعمني أولك في إخائك، وأيأسني آخرك من وفائك، فسبحان من لو شاء كشف إيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة الشك في حالك فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على خلاف" وهذا المثال ينفعنا فيما يلي.