أول واجب على البليغ أن يكون واضحًا مفهومًا يرمي إلى إفادة قرائه ورفع مستواهم الثقافي، ولا يستطيع ذلك بالوقوف عند تزويدهم بالمعارف جافة ثقيلة، بل يحسن به أن يكسب معارفه حياة وروعة شائقة بما يبث فيها من عواطف وأخيلة ملائمة كما قيل من قبل. والمصدر الأول للوضوح هو عقل الأديب، فيجب على الكاتب أن يكون فاهمًا ما يريد أداءه فهمًا دقيقًا جليًّا، ثم يحرص على أدائه كما هو، ولذلك أثره البعيد في قيمة الأسلوب؛ لذلك كان الوضوح صفة عقلية قبل كل شيء. وبعد ذلك يأت التعبير اللغوي الذي يتطلب من المنشئ ثروة لغوية وقدرة على التصرف في التراكيب والعبارات لتلائم أفكاره وطريقة تفكيره، فلا يرضى عن كلمة أو جملة تعبث الإبهام أو الاشتراك، ولا يشعر الناس بأن عبارته في حاجة إلى أن تفهم.
ولن يجوز في فن البلاغة هذا القانون الذي ارتجله أبو تمام حين قال: ولم لا يفهم ما يقال؟ جوابًا لمن قال له: لم لا تقول ما يفهم؟ لأن البلاغة قائمة على العنابة بالقراء والسامعين، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال، فإذا بدا الأسلوب بعد ذلك غامضًا توجه الطعن إلى منشئته، ورمي إما بعدم فهمه ما يقول وإما بعجزه عن التعبير عما يفهم.
نعم قد تكون الفكرة في ذاتها غامضة لأنها لم يتم بحثها، فعليه عرضها كما هي بأحدث أوضاعها كما ترى ذلك في تاريخ العلوم والفلسفة، وقد يكون القراء أنفسهم دون مستوى الأديب أو من طراز آخر غير ما يكتب فيه، فعليه -ليكون البليغ التام- أن يكتب لهم باللغة التي يفهمونها تاركًا التحرج أو الاعتزال١. وهاتان الخطوتان اللازمتان لتحقيق الوضوح الأسلوبي تستلزمان أمرين: