للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأما قولهم "جَيْرِ لأذهبنَّ، وعوْضُ لأقومنَّ، وكلَّا لأنطلقن" فإنما أقسموا بها لأنهم أجروها مجرى حق، والحق معظم في النفوس، بخلاف الظن الذي فيه معنى الشك، وجير بمعنى نَعَمْ، قال الشاعر:

[٢٥٧]

إن الذي أغناك يغنيني جَيْر ... واللهُ نَفَّاحُ اليَدَينِ بالخير

وعَوْضُ بمعنى الدهر، قال الشاعر:

[٢٥٨]

رَضِيعَيْ لبَانٍ ثَدْيَ أمِّ تَحَالفَا ... بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لا نتفرَّقُ


[٢٥٧] هذان بيتان من مشطور الرجز، والذي يؤخذ من كلام أهل اللغة أن "جير" تأتي على وجهين: أولهما: أن تكون حرف جواب كأجل، ومعناهما نعم، وعليه جاء قول الراجز:
قالت: أراك هاربا للجور ... من هدة السلطان، قلت: جير
وهي في هذا الوجه مبنية إما على الكسر كما هو الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، وإما على الفتح للتخفيف مثل أين وكيف، والوجه الثاني: أن تكون بمعنى اليمين، يقال: جير لا أفعل كذا، ولا جير لا أفعل ذلك، قال الجوهري: "قولهم جير لا آتيك -بكسر الراء- يمين للعرب، ومعناها حقا" ا. هـ وأنكر ابن هشام في المغني الاستعمال الثاني، قال "ص١٢٠": "جير -بالكسر على أصل التقاء الساكنين كأمس، وبالفتح للتخفيف كأين وكيف -حرف جواب بمعنى نعم، لا اسم بمعنى حقا فتكون مصدرا، ولا بمعنى أبدًا فتكون ظرفًا، وإلا لأعربت ودخلت عليها أل" ا. هـ. وفي كلام ابن هشام هذا مناقشة؛ فإنه قطع بأنها لا تكون إلا حرف جواب بمعنى نعم، ونفى أن تكون اسمًا بمعنى حقًّا يستعمل في اليمين، واستدل بأنها لو كانت اسمًا بمعنى حقًّا لوجب إعرابها وجاز دخول أل عليها، وكل ذلك غير مسلم له، أولا: لأن أثبات العلماء قد نقلوا أن العرب تستعملها بمعنى اليمين، وقد استقر عند المحققين أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وثانيا: أنه لا يلزم من كونها تأتي اسمًا بمعنى حقًّا أن تعرب، لأن لبنائها مع ذلك سبابً معترفًا به، وبهذا السبب نفسه بنيت بعض الأسماء، وهذا السبب هو شبهها الحرف شبهًا لفظيًا، فإن "جير" التي هي اسم بمعنى حقا أشبهت "جير" التي هي حرف جواب، كما أن "حاشا" التنزيهية بنيت لشبهها حاشا الحرفية شبهًا لفظيًا، ولم يلزم من كونها بمعنى تنزيهًا أن تعرب ولا أن تدخلها أل، وأيضًا "ما" التي هي نكرة بمعنى شيء لم يلزم من أن تكون بمعنى اسم تدخل عليه أل أن تكون هي بحيث تدخل عليها أل، وقول الراجز المستشهد بكلامه "والله نفاح اليدين بالخير" مأخوذ من قولهم "نفحة بشيء" أي أعطاه، و"نفحه بالمال نفحًا" أعطاه، وفي الحديث "المكثرون هم المقلون إلا من نفح فيه يمينه وشماله" أي ضرب يديه فيه بالعطاء. وقال الشاعر، وهو ابن ميّادة الرماح بن أبرد يمدح الوليد بن يزيد:
لما أتيتك أرجو فضل نائلكم ... نفحتني نفحة طابت لها العرب
[٢٥٨] هذا البيت من قصيدة الأعشى ميمون بن قيس التي مدح بها المحلق فرفع من شأنه، ومطلعها:
أرقت، وما هذا السهاد المؤرق؟ ... وما بي من سقم، وما بي معشق
والبيت المستشهد به من شواهد رضي الدين في باب الظروف من شرح الكافية، وقد شرحه =

<<  <  ج: ص:  >  >>