للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان الأصل أن يقول "قبل إنفاذه" لأن الشراب مذكر، إلا أنه أنثه حملًا على المعنى؛ لأن الشراب هو الخمر في المعنى، وقال الآخر:

[٣٢٩]

يا بئرُ يا بئرَ بني عَدِيِّ ... لأَنْزَحَنَّ قَعْرَكَ بالدُّلِيِّ

حتى تعودي أَقْطَعَ الوَلِيِّ

وكان الأصل أن يقول "قَطْعِي الولي" لأن البئر مؤنثة، إلا أنه ذكره حملا على المعنى، فكأنه قال: حتى تعودي قليبا أقطع الولي، والقليب الأغلب عليه التذكير، ولذلك قالوا في جمعه "أَقْلِبَةٌ" وأفعلة بناء يختص به المذكر في القلة كاختصاص المؤنث بأَفْعُلٍ في القلة، وقوله "ذو الطول وذو العرض" يرجع إلى الحي، فانتقل


= شعري كيف ينفدون الشراب قبل إنفاده؟ ولكن العلماء الأثبات أعادوا الضمير المؤنث في قوله "قبل إنفادها" إلى أحد شيئين يصح مع كل واحد منهما اللفظ والمعنى؛ أما أحد هذين فقد ذكره أبو عبيدة، قال: فكانوا هم المنفدين شرابهم قبل أن تنفد عقولهم، يعني أنهم شربوا حتى أنفدوا ما عندهم من الشراب ولم تغب عقولهم، بل بقيت لهم يقظتهم وصحوهم وعلمهم بما يدور حولهم، وأما الثاني: فقد ذكره غير أبي عبيدة، قال: فكانوا هم المنفدين شرابهم قبل إنفاد دراهمهم، يريد أنهم مياسير وأن أموالهم زادت على ثمن ما شربوه، وكلا هذين الوجهين صحيح المعنى صحيح اللفظ، ويكون مرجع الضمير ملحوظا من السياق ومدلولا عليه به ولا يكون في البيت دليل على ما ساقه المؤلف للاستشهاد به عليه.
[٣٢٩] هذه ثلاثة أبيات من الرجز المشطور، والبئر: معروفة، وهي مؤنثة بغير علامة تأنيث؛ فيخبر عنها بالمؤنث، وتوصف بصفات المؤنث، ويعود إليها الضمير مؤنثا؛ وتقول: نزحت البئر أنزحها نزحا -من مثال فتح يفتح فتحا- إذا استقيت ماءها حتى ينفد أو يقل، وقالوا "هذا ماء لا ينزح" بكسر الزاي وبفتحها -يريديون أنه كثير لا ينفد، وقعر البئر -بفتح القاف وسكون العين- أقصاه وعمقه ونهاية أسفله والدّلي: جمع دلو، وأصلها دلوو -على مثال فأس وفئوس وقبر وقبور، ثم قلبت الواو المتطرفة ياء فصار "دلوي" فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء، ثم قلبت ضمة الدال كسرة لمناسبة الياء المشددة، وهذه الأعمال إلى هنا واجبة كلها، ثم لك بعد ذلك أن تقلب ضمة الدال كسرة؛ لمناسبة ما بعدها ولأن الانتقال من ضمة إلى كسرة بعدها ياء مشددة ثقيل، ولك أن تبقيها على حالها، وتقول: قطع ماء الركية قطوعًا وقطاعا، تريد أنه انقطع أو قل، والولي -من مثال غني- أصله المطر ينزل بعد المطر، والمطر الأول يسمى الوسمي، وأراد الماء، والاستشهاد بهذه الأبيات في قوله "حتى تعودي أقطع الولي" فإن قوله "أقطع الولي" من صفات البئر، وقد علمت أن البئر مؤنثة، فمن حق ما توصف به أن يؤتى به على غرار صفات المؤنث، فكان من حق العربية عليه أن يقول "حتى تعودي قطعي الولي" إلا أنه لما كان من أسماء البئر القليب، وكان الأغلب على القليب التذكير، وصف البئر التي ذكرها في كلامه بالمذكر باعتبار أنها قليب، فحمل صفتها على المعنى، وهذا ظاهر إن شاء الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>