للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أي: فبرحمة، وقال تعالى: {عمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: ٤٠] أي: عن قليل، وقال تعالى: {فبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: ١٥٥] أي: فبنقضهم، و"ما" زائدة، فكذلك ههنا.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنها تكون بمعنى ما" قلنا: نسلم أنها تكون بمعنى "ما" في موضع ما، فأما ما احتجوا به فأكثره نقول بموجبه؛ إذ لا نمنع١ أن تقع في بعض المواضع بمعنى ما.

وأما ما احتجوا به من قوله تعالى: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: ٩٣] فلا نسلم أن "إن" ههنا بمعنى ما، وإنما هي ههنا شرطية، وجوابه مقدر، والتقدير فيه: إن كنتم مؤمنين فأي إيمان يأمر بعبادة عجل من دون الله تعالى؟ وكذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ} [الزخرف: ٨١] لا نسلم أيضًا أنها ههنا بمعنى ما، وإنما هي شرطية، وجوابه فأنا أول العابدين: أي الآنفين، من قولهم: "عبِدَ الرجلُ يَعْبُدُ عبدًا فهو عَبْدٌ وعَابِدٌ" إذا أَنِفَ، وجاء في كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه "عَبِدْتُ فَصَمَتُّ" أي أَنِفْتُ فَسَكَتُّ، وقال الشاعر:

[٤٠٧]

أولئك قومي إِنْ هَجَوْنِي هَجَوتُهُمْ ... وأعبد إِنْ تُهْجَى تميمٌ بِدَارِمِ


[٤٠٧] أنشد ابن منظور هذا البيت "ع ب د" ونسبه إلى الفرزدق، وقد بحثت في ديوان الفرزدق فلم أجده، وإن كان معنى البيت يتكرر كثيرا في كلام الفرزدق، كقوله لجرير:
ولست وإن فقأت عينيك واجدًا ... أبا لك -إذ عد المساعي- كدارم
وكقوله في العديل بن الفرخ العجلي:
عجبت لعجل إذ تهجى عبيدها ... كما آل يربوع هجوا آل دارم
وكقوله، وهو أقرب لبيت الشاهد:
وليس بعدل أن سببت مقاعسًا ... بآبائي الشم الكرام الخضارم
ولكن عدلا لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من مناف وهاشم
وتقول "عبد فلان على فلان يعبد عبدا فهو عبد من مثال فرح يفرح فرحًا فهو فرح" وعابد أيضًا: إذا غضب وأنف، وقد عدّى الفرزدق هذا الفعل بنفسه من غير حرف الجر في قوله:
علام يعبدني قومي وقد كثرت ... فهيم أباعر ما شاءوا وعبدان؟
والاستشهاد بالبيت ههنا في قول "وأعبد" فإنه فعل مضارع ماضيه "عبد" من باب فرح، ومعناه أنف وغضب، وقال ابن أحمر يصف الغواص:
فأرسل نفسه عبدا عليها ... وكان بنفسه أربًا ضنينا

<<  <  ج: ص:  >  >>