ولهذا لم يأتِ في كلامهم ما عينُهُ همزة ولامُهُ همزةٌ كما جاء ذلك في الياء والواو نحو "حيَّة، وقوَّة" وكذلك الحروف الصحيحة نحو "طَلَل، وشَرَر" وما أشبه ذلك؛ فلما كانوا يستثقلون اجتماع الهمزتين قربوا هذه الهمزة من حرف العلة، وذلك لا يوجب خروجَهَا عن أصلها من كل وجه، ولا سَلْبَ حركتها عنها بالكلية.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنه لا يجوز أن تقع مبتدأة" قلنا: إنما لم يجز أن تقع مبتدأة لأنها إذا جعلت بَيْنَ بَيْنَ اخْتُلِسَتْ حركتها وقربت من الساكن، والابتداء إنما يكون بما تمكنت فيه حركته، وإذا جعلت بَيْنَ بَيْنَ فقد زال ذلك التمكن وقربت من الساكن، وكما لا يجوز الابتداء بالساكن فكذلك لا يجوز الابتداء بما قرب منه.
ألا ترى أنهم لم يخرموا مُتَفَاعلن من الكامل -وهو حذف الحرف الأول- كما خرموا فَعُولُن؛ لأجل أن متفاعلن يسكن ثانيه إذا أضمر، والإضمار إسكان الثاني، فكان يبقى متفاعلن فينقل إلى مستفعلن، فلو خرموه في أول البيت لأدّى ذلك إلى الابتداء بالساكن في حال؛ فجرى خَرْمه مجرى خَرْم مستفعلن؛ فلما كان يفضي إلى الابتداء بالساكن رفضوه، فكذلك ههنا: لما قربت من الساكن بجعلها بَيْنَ بَيْنَ رفضوا الابتداء بها.
وحكي عن أبي علي الفارسيّ أنه سئل عن الخرم في متفاعلن في حال شبابه، ولم يكن عنده حينئذ مذهب أهل العروض، فأجاب بهذا الجواب، وقال: لايجوز؛ لأنه يؤدّي إلى الابتداء بالساكن من الوجه الذي بيّنّاه، والله أعلم.
= نقول: إن كل النحاة يرون في بيت الشاهد" متى الموت جائي" بالياء مرفوعة بالضمة الظاهرة -على أن الشاعر ارتكب الضرورة، والضرورة هي معاودة الأصول المهجورة رغبة في إقامة وزن أو نحوه، ولكن قطرب بن المستنير روى هذه الكلمة "متى الموت جائئ" بهمزتين؛ ليفرّ من هذه الضرورة، وفاته أنه وقع في ضرورة أخرى وذلك لأن الهمزتين المتطرفتين إذا تحركتا وانكسرت أولاهما وجب قلب الثانية ياء، وذلك لأن آخر الكلمة يعرض التسكين للوقف، فتكون الثانية كأنها متطرفة ساكنة إثر أخرى مكسورة، فبقاء الهمزتين ليس هو المستعمل في العربية، فيكون ضرورة، فيصدق عليه المثل "هرب من المطر فوقف تحت ميزاب".