للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَأَعْمَلَ الفعل الأول، ولو أعمل الثاني لنصب "قليلا" وذلك لم يَرْوِه أحد، وقال رجل من بني أسد:

[٤٠]

فَرَدَّ على الفُؤَادِ هَوًى عميدًا ... وَسُوئِل لو يُبِينُ لنا السُّؤَالَا


= ومثلهما قول الحماسي أيضًا، وهو قريط بن أنيف أحد بني العنبر:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
ثم قال بعد ذلك:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... لبسوا من الشر في شيء وإن هانا
وذلك أن معنى هذا البيت الأخير: لكنني لست من مازن، ونظير هذا قول الله تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: من الآية٤٣] ومن هنا تعلم أن قول الشلوبين وابن هشام الخضراوي: إن "لو" لا يدل على امتناع شرط ولا جوابه ولكنه يدل على التعليق في الماضي كلام غير مستقيم، والاستشهاد بالبيت في قوله "كفاني ولم أطلب قليل من المال" فإن المؤلف نقل عن الكوفيين أنهم زعموا أن هذا البيت من باب التنازع لتقدم فعلين على اسم واحد، وقد أعمل الشاعر أول الفعلين -وهو قوله "كفاني"- في الاسم المتأخر فرفعه به، والدليل على ذلك أنه لو أعمل الثاني وهو أطلب لنصب الاسم به؛ لأنه يطلب مفعولًا، وهذا الكلام غير صحيح؛ لأن شرط التنازع أن يكون كل واحد من العاملين المتقدمين طالبًا للمعمول مع صحة المعنى على فرض عمل أيهما فيه، وفي هذا البيت لا يتم ذلك؛ فإنك لو قلت: لو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب ذلك القليل، لكان كلامًا متناقضا لا محصول له، وإنما يتم معنى بيت امرئ القيس إذا قدرت لقوله "ولم أطلب" مفعولًا يدل عليه البيت بعده، وتقديره "ولم أطلب الملك" وإذا انحل البيت إلى قولك: ولو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك، كان كلاما صحيحا مقبولا، ولم أجد من المؤلفين من بين ذلك بيانًا شافيًا كافيًا كابن هشام في كتابه شرح قطر الندى، فارجع إليه إن شئت.
[٤٠] هذان البيتان من كلام المرار الأسدي، وهما من شواهد سيبويه "١/ ٤٠" والهوى: العشق، وعميد: أي فادح يبهظ صاحبه ويدنفه ويسقمه، فعيل بمعنى فاعل، وأصله قولهم "عمده المرض" أي أضناه وأوجعه، و"نغنى" مضارع "غنى بالمكان" من مثال رضى؛ أي أقام فيه وتوطنه، ومنه سمي منزل القوم ومحل إقامتهم المغنى، والخرد -بضم الخاء والراء جميعا- جمع خريدة، وهي المرأة الحيية الطويلة السكوت، أو هي البكر التي لم تمس، والخدال -بكسر الخاء- جمع خدلة -بفتح فسكون- وهي الغليظة الساق المستديرتها، والاستشهاد بالبيتين في قوله "ونرى يقتدننا الخرد الخدالا" حيث كانت هذه العبارة من باب التنازع لتقدم فعلين هما نرى ويقتاد، وتأخر معمول هو الخرد الخدال، وقد أعمل الشاعر الفعل الأول في هذا المعمول بدليل أنه نصبه وأتى بضميره معمولا للفعل الثاني وهو نون النسوة، ولو أنه أعمل الفعل الثاني لقال: نرى يقتادنا الخرد الخدال، فيرفع المعمول على أنه فاعل ليقتاد ويحذف ضميره لكون الأول يطلب معمولًا فضلة، وهذا يدل على أن إعمال العامل الأول أولى، وهو مذهب الكوفيين، والحق أن هذه الشواهد كلها لا تدل على أكثر من أن إعمال العامل الأول جائز، وهو ما لا يختلف فيه أحد، فما أولويته فلا.

<<  <  ج: ص:  >  >>