للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد نَغْنَى بها ونرى عُصُورًا ... بها يَقْتَدْنَنَا الخُرُدَ الخِدَالَا

فأَعْمَلَ الأول، ولذلك نَصَبَ "الخرد الخدالا" ولو أعمل الفعل الثاني لقال: "تقتادنا الخردُ الخدالُ" بالرفع، وقال الآخر:

[٤١]

ولما أَنْ تَحَمَّل آلُ لَيْلَى ... سمعت ببينهم نَعَبَ الغُرَابَا

فأعمل الأول، ولذلك نصب الغراب، ولو أعلم الثاني لوجب أن يرفع.

وأما القياس فهو أن الفعل الأول سابق الفعل الثاني، وهو صالح للعمل كالفعل الثاني، إلا أنه لما كان مبدوءًا به كان إعماله أولى؛ لقوة الابتداء والعناية به؛ ولهذا لا يجوز إلغاء "ظننت" إذا وقعت مبتدأة، نحو "ظننت زيدًا قائمًا" بخلاف ما إذا وقعت متوسطة أو متأخرة، نحو "زيد ظننت قائم، وزيد قائم ظننت" وكذلك لا يجوز إلغاء "كان" إذا وقعت مبتدأة نحو "كان زيد قائما" بخلاف ما إذا كانت متوسطة، نحو "زيد كان قائم" فدل على أن الابتداء له أثر في تقوية عمل الفعل.

والذي يؤيد أن إعمال الفعل الأول أولى من الثاني أنك إذا أعملت الثاني أدَّي إلى الإضمار قبل الذِّكر، والإضمار قبل الذِّكر لا يجوز في كلامهم.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الاختيار إعمال الفعل الثاني النقلُ، والقياسُ.

أما النقل فقد جاء كثيرًا، قال الله تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: ٩٦]


[٤١] تحمل آل ليلى: وضعوا حمولهم وهموا بالارتحال، والبين -بالفتح- البعد والفراق. والاستشهاد بالبيت في قوله "سمعت ببينهم نعب الغرابا" فإن هذه العبارة من باب الاشتغال، حيث تقدم عاملان -وهما سمعت، ونعب- وتأخر عنهما معمول واحد وهو قوله الغراب، والأول يطلبه مفعولًا لأنه استوفى فاعله، والثاني يطلبه فاعلا لأنه فعل لازم ولم يستوفِ فاعله ظاهرًا، وقد أعمل الشاعر العامل الأول في هذا المعمول فنصبه به، ولو أنه أعمل العامل الثاني لرفعه، فكان يقول "سمعت ببينهم نعب الغراب" وقد زعم الكوفيون أن هذا يدل على أن إعمال العامل الأول أولى من إعمال العامل الثاني، ولكن الحقيقة أن هذا الشاهد ونحوه يدل على جواز إعمال العامل الأول، فأما الدلالة على أولوية ذلك فلا دلالة للبيت ولا لغيره عليه، وورود شواهد أخرى فيها إعمال العامل الثاني دون الأول يدل على جواز إعمال الثاني، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنها تدل على أولويته، فليكن المقرر أن إعمال الأول جائز وإعمال الثاني جائز أيضًا. وليس إعمال أحدهما بأولى من إعمال الآخر، وستأتي لهذا الكلام بقية مع الشواهد ٤٢ و ٤٤ و ٤٨.
ونظير هذا قول رياح الزنجي:
أن الفرزدق صخرة عادية ... طالبت، فليس تنالها الأجبالا
يريد طالت الأجبال، أي غلبتها في الطول، فليس تنالها الأجبال.

<<  <  ج: ص:  >  >>