تَنْبِيهَاتٌ
" الْأَوَّلُ " زَعَمَتِ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الْجُزَيْئَاتِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا جُزَيْئَاتٍ زَمَانِيَّةً يَلْحَقُهَا التَّغَيُّرُ، قَالُوا: لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْمَعْلُومِ يَسْتَلْزِمُ تَغَيُّرَ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَغَيُّرَ الذَّاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
بَيَانُ لُزُومِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ زَيْدًا جَالِسٌ فِي الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ فَعِنْدَ خُرُوجِ زَيْدٍ مِنْهُ فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الْعِلْمُ أَوْ لَا، فَإِنْ بَقِيَ لَزِمَ الْجَهْلُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَزِمَ التَّغَيُّرُ فِي عِلْمِهِ، وَهُوَ قَائِمٌ بِهِ، فَيَلْزَمُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ: اخْتِيَارُ الثَّانِي، وَمَنْعُ التَّغَيُّرِ فِي نَفْسِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْمُتَغَيِّرَ تَعَلُّقُهُ لَا نَفْسُهُ، وَتَغَايُرُ الْإِضَافَاتِ وَالنِّسَبِ جَائِزٌ.
وَأَجَابَ الْفَلَاسِفَةَ عَنْ هَذَا مَشَايِخُ السُّنَّةِ وَمَشَايِخُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ عِلْمَ الْبَارِي بِأَنَّ الشَّيْءَ سَيُوجَدُ نَفْسُ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ وُجِدَ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ زَيْدًا سَيَدْخُلُ الْبَلَدَ غَدًا، فَعِنْدَ حُصُولِ الْغَدِ يَعْلَمُ بِهَذَا الْعِلْمِ أَنَّهُ دَخَلَ الْبَلَدَ الْآنَ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ أَحَدُنَا لِعِلْمٍ آخَرَ لَطَرَيَانِ الْغَفْلَةِ عَنِ الْأَوَّلِ، وَالْبَارِي مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ تَغَيُّرٌ أَصْلًا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى.
وَهَذِهِ إِحْدَى مَا كَفَّرَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الْفَلَاسِفَةَ بِهَا. وَلَهُمْ مِنْ أَمْثَالِهَا الطَّامَّاتُ الْمُعْضِلَاتُ فَلَا يَهُولَنَّكَ مَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَعَارِفِ وَدَقَائِقِ الْأَفْكَارِ فَمَا مِنْهُمْ إِلَّا الْمُخَالِفُ أَوْ عَلَى شَفَا جُرْفٍ هَارٍ.
" الثَّانِي " خَالَفَ فِي إِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِسَائِرِ الْأَشْيَاءِ فِرَقٌ سِوَى الْفَلَاسِفَةِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ نَفْسَهُ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْعِلْمَ نِسْبَةٌ عَارِضَةٌ لِلْعَالِمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْلُومِ، قَالَتْ: وَالنِّسْبَةُ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَ الْمُتَغَايِرَيْنِ فَلَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُغَايَرَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صِفَةٌ لَا نِسْبَةٌ بَلْ صِفَةُ ذَاتٍ، وَأَيْضًا يَنْتَقِضُ مَا زَعَمُوهُ بِعِلْمِنَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا يَعْلَمُ نَفْسَهُ ضَرُورَةً مَعَ عَدَمِ الْمُغَايَرَةِ.
" الثَّانِيَةِ " زَعَمَتْ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ شَيْئًا عَلِمَ عِلْمَهُ بِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِذَاتِهِ ضَرُورَةً، قَالُوا: وَقَدْ عُلِمَ امْتِنَاعُ عِلْمِهِ بِذَاتِهِ - كَمَا زَعَمَتِ الْفِرْقَةُ الْأُولَى -، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ يَعْلَمُ شَيْئًا أَمْكَنَ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَهُ بِهِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ عَالِمًا بِالْعُلُومِ وَالْهَنْدَسِيَّاتِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا. وَهَذَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِنَفْسِ تَصَوُّرِهِ فَلَا يُشْتَغَلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute