يَشْتَكِي فَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْعَجَائِبِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ أَحَدًا صَنَّفَ كِتَابًا يَقْدِرُ أَمْثَالُهُ عَلَى تَصْنِيفِ مِثْلِهِ، أَوْ قَالَ شِعْرًا يَقْدِرُ أَمْثَالُهُ عَلَى أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهُ، وَتَحَدَّاهُمْ كُلَّهُمْ، فَقَالَ: عَارِضُونِي، وَإِنْ لَمْ تُعَارِضُونِي، فَأَنْتُمْ كُفَّارٌ، مَأْوَاكُمُ النَّارُ، وَدِمَاؤُكُمْ حَلَالٌ - امْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُ أَحَدٌ، فَإِذَا لَمْ يُعَارِضُوهُ كَانَ هَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، وَالَّذِي جَاءَ بِالْقُرْآنِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، وَمَنْ آمَنَ بِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي دَخَلَ النَّارَ، وَقَدْ أُبِيحَ لِي قَتْلُ رِجَالِهِمْ، وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ، وَغَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ طَاعَتِي، وَمَنْ لَمْ يُعْطِنِي كَانَ مِنْ أَشْقَى الْخَلْقِ، وَمِنْ آيَاتِي هَذَا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَأَنَا أُخْبِرُكُمْ أَنَّ أَحَدًا لَا يَأْتِي بِمِثْلِهِ.
فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَادِرِينَ عَلَى الْمُعَارَضَةِ أَوْ عَاجِزِينَ فَإِنْ كَانُوا قَادِرِينَ وَلَمْ يُعَارِضُوهُ، بَلْ صَرَفَ اللَّهُ دَوَاعِيَ قُلُوبِهِمْ وَمَنَعَهَا أَنْ تُرِيدَ مُعَارَضَتَهُ مَعَ هَذَا التَّحَدِّي الْعَظِيمِ أَوْ سَلَبَهُمُ الْقُدْرَةَ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ قَبْلَ تَحَدِّيهِ، فَإِنَّ سَلْبَ الْقُدْرَةِ الْمُعْتَادَةِ أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ مُعْجِزَتِي أَنَّكُمْ كُلَّكُمْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى الْكَلَامِ، وَلَا عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْمُعْتَادِ، كَإِحْدَاثِ غَيْرِ الْمُعْتَادِ، فَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْخَوَارِقِ، وَإِنْ كَانُوا عَاجِزِينَ ثَبَتَ أَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَثَبَتَ كَوْنُهُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقِيضَيْنِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مِنَ الْعَجَائِبِ النَّاقِضَةِ لِلْعَادَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. "
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ -: فَهَذَا غَايَتُهُ غَايَةُ التَّنْزِيلِ، قَالَ: وَإِلَّا فَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ: بَلْ وَلَا يَقْدِرُ مُحَمَّدٌ نَفْسُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُبَدِّلَ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، بَلْ يُظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ سَائِرِ كَلَامِهِ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَدَبُّرٍ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: ٨٨] .
قُلْتُ: وَفِي شِفَاءِ أَبِي الْفَضْلِ الْقَاضِي عِيَاضٍ بَعْضُ مَيْلٍ لِلْقَوْلِ بِالصَّرْفَةِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ - يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّ - إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ مِثْلُهُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَيُقَدِّرُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا، وَلَا يَكُونُ فَمَنَعَهُمُ اللَّهُ هَذَا، وَعَجَّزَهُمْ عَنْهُ. قَالَ: وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.
قَالَ: وَعَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute