مَحْمُودَةٍ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْكَرَّامِيَّةِ، وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالتَّصَوُّفِ وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ وَأَكْثَرِ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَأَمْثَالِهِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ مَخْلُوقَةٌ وَمُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ تَعَالَى، وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَالشِّيعَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، قَالُوا: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ إِحْسَانُهُ لِلْخَلْقِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ تَعْرِيضُ الْمُكَلَّفِينَ لِلثَّوَابِ، قَالُوا: فِعْلُ الْإِحْسَانِ إِلَى الْغَيْرِ حَسَنٌ مَحْمُودٌ فِي الْعَقْلِ، فَخَلَقَ الْخَلْقَ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ حُكْمٌ وَلَا قَامَ بِهِ نَعْتٌ وَلَا فِعْلٌ، فَقَالَ لَهُمُ النَّاسُ: أَنْتُمْ تَتَنَاقَضُونَ فِي هَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْغَيْرِ مَحْمُودٌ لِكَوْنِهِ يَعُودُ مِنْهُ إِلَى فَاعِلِهِ حُكْمٌ يُحْمَدُ لِأَجْلِهِ، إِمَّا لِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَإِمَّا لِقَصْدِهِ الْحَمْدَ وَالثَّوَابَ بِذَلِكَ، وَإِمَّا لِرِقَّةٍ وَأَلَمٍ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ، يَدْفَعُ بِالْإِحْسَانِ ذَلِكَ الْأَلَمَ، وَإِمَّا لِالْتِذَاذِهِ وَسُرُورِهِ وَفَرَحِهِ بِالْإِحْسَانِ، فَإِنَّ النَّفْسَ الْكَرِيمَةَ تَفْرَحُ وَتُسَرُّ وَتَلْتَذُّ بِالْخَيْرِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَالْإِحْسَانُ إِلَى الْغَيْرِ مَحْمُودٌ لِكَوْنِ الْمُحْسِنِ يَعُودُ إِلَيْهِ مِنْ فِعْلِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ. أَمَّا إِذَا قَدَّرَ أَنَّ وُجُودَ الْإِحْسَانِ وَعَدَمَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاعِلِ سَوَاءٌ؛ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ يَحْسُنُ مِنْهُ، بَلْ مِثْلُ هَذَا يُعَدُّ عَبَثًا فِي عُقُولِ الْعُقَلَاءِ، وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لَيْسَ فِيهِ لِنَفْسِهِ لَذَّةٌ وَلَا مَصْلَحَةٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لَا عَاجِلَةٌ وَلَا آجِلَةٌ، كَانَ عَبَثًا، وَلَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا عَلَى هَذَا، وَأَنْتُمْ عَلَّلْتُمْ أَفْعَالَهُ تَعَالَى فِرَارًا مِنَ الْعَبَثِ فَوَقَعْتُمْ فِيهِ، فَإِنَّ الْعَبَثَ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ وَلَا مَنْفَعَةَ وَلَا فَائِدَةَ تَعُودُ عَلَى الْفَاعِلِ ; وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ - تَعَالَى - وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ أَحَدًا بِالْإِحْسَانِ إِلَى غَيْرِهِ وَنَفْعِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِلَّا لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَصْلَحَةِ، فَأَمْرُ الْفَاعِلِ بِفِعْلٍ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ لَذَّةٌ وَلَا سُرُورٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ وَلَا فَرَحٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لَا فِي الْعَاجِلِ وَلَا فِي الْآجِلِ - لَا يُسْتَحْسَنُ مِنَ الْآمِرِ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ((لَكِنَّهُ)) تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. هَذَا اسْتِدْرَاكٌ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ إِنَّهُ يَخْلُقُ الْخَلْقَ بِالِاخْتِيَارِ، أَيْ لَا بِالذَّاتِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute