خَبَرِهِ، وَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِتَصْدِيقِ خَبَرِهِ، وَالتَّحْرِيمُ عِنْدَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مُطَابَقَةِ الْعِلْمِ لِمَعْلُومِهِ، وَالْمُخْبَرِ لِخَبَرِهِ، وَقَدْ يُفَسِّرُونَ التَّحْرِيمَ بِالِامْتِنَاعِ عَقْلًا كَتَحْرِيمِ الظُّلْمِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُمْ يُفَسِّرُونَهُ بِالْمُسْتَحِيلِ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي الْمَقْدُورِ شَيْءٌ هُوَ ظُلْمٌ يَتَنَزَّهُ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، فَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ.
(الْفُرْقَةُ الثَّالِثَةُ) هُمُ الْوَسَطُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ، فَإِنَّ الْفِرْقَةَ الْأُولَى أَوْجَبَتْ عَلَى اللَّهِ شَرِيعَةً بِعُقُولِهَا، حَرَّمَتْ عَلَيْهِ وَأَوْجَبَتْ مَا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ جَوَّزَتْ عَلَيْهِ مَا يَتَعَالَى وَيَتَنَزَّهُ عَنْهُ لِمُنَافَاتِهِ حِكْمَتَهُ وَكَمَالَهُ، وَالْفُرْقَةُ الْوَسَطُ أَثْبَتَتْ لَهُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْإِيجَابِ، وَالتَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ، نَسَبَتْهُ إِلَى ضِدِّهِ ; لِأَنَّهُ مُوجِبُ كَمَالِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَلَمْ تُدْخِلْهُ تَحْتَ شَرِيعَةٍ وَضَعَتْهَا بِعُقُولِهَا، كَمَا فَعَلَتِ الْفِرْقَةُ الْأُولَى وَلَمْ تُجَوِّزْ عَلَيْهِ مَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ كَمَا فَعَلَتِ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ، قَالَتِ الْفِرْقَةُ الْوَسَطُ: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» " وَقَالَ: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: ٤٩] وَقَالَ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: ٤٦] وَقَالَ: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: ٧٧] فَأَخْبَرَ بِتَحْرِيمِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ فِعْلَهُ وَإِرَادَتَهُ، وَلِلنَّاسِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الظُّلْمِ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ تَعَالَى وَتَنَزَّهَ عَنْ فِعْلِهِ وَإِرَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، بِحَسَبِ أُصُولِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمْ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَظِيرُ الظُّلْمِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَشَبَّهُوهُ فِي الْأَفْعَالِ مَا يَحْسُنُ مِنْهَا وَمَا لَا يَحْسُنُ بِعِبَادِهِ، فَضَرَبُوا لَهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمُ الْأَمْثَالَ فَصَارُوا بِذَلِكَ مُشَبِّهَةً مُمَثِّلَةً فِي الْأَفْعَالِ، وَامْتَنَعُوا مِنْ إِثْبَاتِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى الَّذِي أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ ضَرَبُوا لَهُ الْأَمْثَالَ وَمَثَّلُوهُ فِي أَفْعَالِهِ بِخَلْقِهِ كَمَا أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ الْمُعَطِّلَةَ امْتَنَعَتْ مِنْ إِثْبَاتِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى الَّذِي أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ ضَرَبُوا لَهُ الْأَمْثَالَ وَمَثَّلُوهُ فِي صِفَاتِهِ بِالْجَمَادَاتِ النَّاقِصَةِ بَلْ بِالْمَعْدُومَاتِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ نَزَّهُوهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا وَأَثْبَتُوا مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَنَزَّهُوهُ فِيهَا عَنِ الشَّبِيهِ، وَالْمِثَالِ، فَأَثْبَتُوا لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى وَلَمْ يَضْرِبُوا لَهُ الْأَمْثَالَ، فَكَانُوا أَسْعَدَ النَّاسِ بِمَعْرِفَتِهِ وَأَحَقَّهُمْ بِوِلَايَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
ثُمَّ الْتَزَمَ أَصْحَابُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute