أَنْ يُعَذِّبَ الْأَطْفَالَ الَّذِينَ لَا ذَنْبَ لَهُمْ أَصْلًا، وَيُخَلِّدَهُمْ فِي الْجَحِيمِ، وَرُبَّمَا قَالُوا بِوُقُوعِ ذَلِكَ. فَأَنْكَرَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا أَصْحَابُ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ، وَقَالُوا: الصَّوَابُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ أَنَّ الظُّلْمَ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَنَزَّهَ عَنْهُ فِعْلًا وَإِرَادَةً، هُوَ مَا فَسَّرَهُ بِهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ، وَلَا يُعَذَّبُ بِمَا لَا تَكْتَسِبُ يَدَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ سَعَى فِيهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَلَا يُجَازَى بِهَا، أَوْ بِبَعْضِهَا إِذَا قَارَنَهَا، أَوْ طَرَأَ عَلَيْهَا مَا يَقْتَضِي إِبْطَالَهَا، أَوِ اقْتِصَاصَ الْمَظْلُومِينَ مِنْهَا.
وَهَذَا الظُّلْمُ الَّذِي نَفَى اللَّهُ - تَعَالَى - خَوْفَهُ عَنِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: ١١٢] قَالَ السَّلَفُ وَالْمُفَسِّرُونَ: لَا يَخَافُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنَ الظُّلْمِ وَمِنْ عَدَمِ خَوْفِهِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَقَلْبِ الْقَدِيمِ مُحْدَثًا، وَالْمُحْدَثِ قَدِيمًا، فَمِمَّا يَتَنَزَّهُ كَلَامُ آحَادِ الْعُقَلَاءِ عَنْ تَسْمِيَتِهِ ظُلْمًا، وَعَنْ نَفْيِ خَوْفِهِ عَنِ الْعَبْدِ فَكَيْفَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ ! .
قَالُوا: وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِتِلْكَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنْ عَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ ظَالِمٍ، وَأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَأَنَّ قَضَاءَهُ فِيهِمْ عَدْلٌ، وَبِمُنَاظَرَةِ إِيَاسٍ لِلْقَدَرِيَّةِ فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا كُلُّهَا حَقٌّ، يَجِبُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهَا وَلَا تُحَرَّفُ مَعَانِيهَا، وَالْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَيُّ دَلِيلٍ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ - تَعَالَى - أَنْ يُعَذِّبَ أَهْلَ طَاعَتِهِ، وَيُنَعِّمَ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، وَيُعَذِّبَ بِغَيْرِ جُرْمٍ، وَيُحْرِمَ الْمُحْسِنَ جَزَاءَ عَمَلِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ مُتَطَابِقَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَكَمَالِ الْعَدْلِ، وَالْحِكْمَةِ، فَالنُّصُوصُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَقْتَضِي كَمَالَ عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَغِنَاهُ، وَوَضْعِهِ الْعُقُوبَةَ، وَالثَّوَابَ مَوَاضِعَهُمَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ بِهِمَا عَنْ مُسَبِّبِهَا، وَالنُّصُوصُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا تَقْتَضِي كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَانْفِرَادِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْحُكْمِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ آمِرٌ وَلَا نَاهٍ يَتَعَقَّبُ أَفْعَالَهُ بِسُؤَالٍ، وَأَنَّهُ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، لَكَانَ ذَلِكَ تَعْذِيبًا لِحَقِّهِ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ ; لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ لَا تَفِي بِنَجَاتِهِمْ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ " قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» " فَرَحْمَتُهُ لَهُمْ لَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ أَعْمَالِهِمْ، وَلَا هِيَ ثَمَنًا لَهَا، فَإِنَّهَا خَيْرٌ مِنْهَا، كَمَا قَالَ الْحَدِيثُ نَفْسُهُ " وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute