للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلْعَبْدِ قُدْرَةً مُحْدِثَةً وَاخْتِيَارًا، وَيَقُولُ: إِنَّ الْفِعْلَ كَسْبٌ لِلْعَبْدِ، لَكِنْ يَقُولُ: لَا تَأْثِيرَ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِي إِيجَادِ الْمَقْدُورِ، وَهُوَ مَقَامٌ دَقِيقٌ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا الْكَسْبَ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْأَشْعَرِيُّ غَيْرُ مَعْقُولٍ، قَالَ: حَتَّى قَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا: طَفْرَةُ النَّظَّامِ، وَأَحْوَالُ أَبِي هَاشِمٍ، وَكَسْبُ الْأَشْعَرِيِّ. وَذَلِكَ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ فَرْقٌ بَيْنَ الْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ، إِذْ مُجَرَّدُ الِاقْتِرَانِ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْقُدْرَةِ، فَإِنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ يُقَارِنُ حَيَاتَهُ وَعِلْمَهُ وَإِرَادَتَهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْقُدْرَةِ تَأْثِيرٌ إِلَّا مُجَرَّدَ الِاقْتِرَانِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَغَيْرِهَا. وَمِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي صِفَةِ الْفِعْلِ لَا فِي أَصْلِهِ، كَمَا يَقُولُهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ مُتَكَلِّمَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَإِنَّهُ أَثْبَتَ تَأْثِيرًا بِدُونِ خَلْقِ الرَّبِّ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْحَوَادِثِ لَمْ يَخْلُقْهُ اللَّهُ، وَإِنْ جَعَلَ ذَلِكَ مُعَلَّقًا بِخَلْقِ الرَّبِّ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالصِّفَةِ. قِيلَ: وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ يَقْرُبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ الْجَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُحْكَى عَنِ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَغُلَاةِ أَتْبَاعِهِ أَنَّهُمْ سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ حَرَكَتَهُ حَرَكَةُ الْأَشْجَارِ بِالرِّيَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ الْجَهْمَ كَانَ يَقُولُ: لَا أَثَرَ لِحَرَكَةِ الْعَبْدِ أَصْلًا فِي فِعْلِهِ، وَكَانَ يُثْبِتُ مَشِيئَةَ اللَّهِ - تَعَالَى، وَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ فِعْلٌ أَوْ قُدْرَةٌ مُؤَثِّرَةٌ.

قَالَ: وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْجَذْمَى وَيَقُولُ: أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ هَذَا؟ إِنْكَارًا لِأَنْ يَكُونَ لَهُ - تَعَالَى - رَحْمَةٌ يَتَّصِفُ بِهَا سُبْحَانَهُ، زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا مَشِيئَةٌ مَحْضَةٌ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِحِكْمَةٍ، بَلْ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ.

وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتَةِ لِلْقَدَرِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّ لَهُ قُدْرَةً حَقِيقِيَّةً وَاسْتِطَاعَةً حَقِيقِيَّةً، وَلَا يُنْكِرُونَ الْأَسْبَابَ الطَّبِيعِيَّةَ، بَلْ يُقِرُّونَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ، وَالْعَقْلُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَخْلُقُ السَّحَابَ بِالرِّيَاحِ، وَيُنْزِلُ الْمَاءَ بِالسَّحَابِ وَيُنْبِتُ النَّبَاتَ بِالْمَاءِ، وَلَا يَقُولُونَ: الْقُوَى وَالطَّبَائِعُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، بَلْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ لَهَا أَثَرًا لَفْظًا وَمَعْنًى، لَكِنْ يَقُولُونَ: هَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ تَأْثِيرُ الْأَسْبَابِ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>