أَحَدًا إِلَّا الْقَدَرِيَّةَ، قُلْتُ لَهُمْ: مَا الظُّلْمُ؟ قَالُوا: أَنْ تَأْخُذَ مَا لَيْسَ لَكَ، وَأَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مَا لَيْسَ لَكَ. قُلْتُ: فَلِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ. وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: لَكِنَّهُ لَا يَخْلُقُ الْخَلْقَ سُدًى فَلْيُرَاجَعْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ الْمُحَقِّقَ ابْنَ الْقَيِّمِ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ وَجَمْعٍ - لَمْ يَرْتَضُوا بِهَذَا، وَنَقَّبُوا عَلَيْهِ وَبَرْهَنُوا وَأَثْبَتُوا الْحِكْمَةَ وَالْعِلَّةَ فِي أَفْعَالِهِ - تَعَالَى - عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَمَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ أَفْعَالَ الْبَارِي - تَعَالَى - لَيْسَ مُعَلَّلَةً بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَصَالِحِ وَالْغَرَضِ، مَا لِأَجْلِهِ يَصْدُرُ الْفِعْلُ عَنِ الْفَاعِلِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَفْعَلُ هَذِهِ الْحَوَادِثَ عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُقَارِنَةِ لَهَا، وَإِنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَيَجْعَلُونَ اللَّامَ فِي أَفْعَالِهِ لَامَ الْعَاقِبَةِ، لَا لَامَ التَّعْلِيلِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مُحَرَّرٌ. وَمَذْهَبُ الْمَاتُرِيدِيَّةِ امْتِنَاعُ خُلُوِّ فِعْلِهِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ.
قَالَ السَّعْدُ: وَالْحَقُّ أَنَّ تَعْلِيلَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ لَا سِيَّمَا الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ - ظَاهِرٌ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأَئِمَّةِ عَلَى مَا حَكَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي شَرْحِ الْأَصْفَهَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ الْقَوْلُ الْوَسَطُ الْجَامِعُ لِلْحَقِّ الْمُوَافِقُ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ. وَعَلَيْهِ أَشْهَرُ الطَّوَائِفِ انْتِسَابًا إِلَى السُّنَّةِ هُمْ مُثْبِتَةُ الْقَدَرِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَيُثْبِتُونَ لِلَّهِ - تَعَالَى - حِكْمَةً يَفْعَلُ لِأَجْلِهَا قَائِمَةً بِهِ - تَعَالَى - لَا مُنْفَصِلَةً عَنْهُ، وَيُثْبِتُونَ لَهُ رَحْمَةً وَمَحَبَّةً وَرِضًا وَسُخْطًا، وَيُثْبِتُونَ لِلْحَوَادِثِ أَسْبَابًا تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ، وَيُثْبِتُونَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَالْمَوَانِعِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ الَّذِي يَجْمَعُ مَا فِي الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ الصَّوَابِ، وَيَجْتَنِبُ مَا فِيهَا مِنَ الْخَطَأِ، قَالَ: فَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ، وَهِيَ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ الْحَقَّ وَأَدِلَّتَهُ بِمَا ضَرَبَهُ فِيهِ مِنَ الْأَمْثَالِ وَسَنَّهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ. انْتَهَى.
قَالَ بَعْضُ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ: إِنَّ الْأَشَاعِرَةَ يَقُولُونَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الْعَبَثَ فِي أَفْعَالِهِ - تَعَالَى - كَمَا يَمْنَعُونَ الْغَرَضَ ; وَلِذَلِكَ كَانَ التَّعَبُّدِيُّ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا لَا يُطَّلَعُ عَلَى حِكْمَتِهِ، لَا مَا لَا حِكْمَةَ لَهُ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ نَقَلَ عَنِ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَمْنَعُونَ وُجُوبَ التَّعْلِيلِ لَا أَنَّهُمْ يُحِيلُونَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ، وَاسْتَغْرَبَهُ بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute