كُلِّ ذَنْبٍ لِمَنْ أَرَادَهَا، وَيُمْكِنُ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجُمْهُورُ، وَقَدْ فَرَضَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَنْ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً، وَمَنْ تَوَسَّطَ جَرْحَى، فَكَيْفَ مَا تَحَرَّكَ قَتَلَ بَعْضَهُمْ، فَقِيلَ: هَذَا لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى التَّوْبَةِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا وَغَيْرَهُ إِذَا تَابَ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ، فَإِنَّ خُرُوجَ مَنْ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً بِنِيَّةِ تَخْلِيَةِ الْمَكَانِ وَتَسْلِيمِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَلَا مُحَرَّمٍ، بَلِ الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ دَارًا، وَتَرَكَ فِيهَا قُمَاشَهُ وَمَالَهُ إِذَا أُمِرَ بِتَسْلِيمِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا وَبِإِخْرَاجِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَوْعَ تَصَرُّفٍ فِيهَا، لَكِنَّهُ لِأَجْلِ إِخْلَائِهَا، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ - إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ - وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: ٥٣ - ٥٥] الْآيَاتِ، فَهَذِهِ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨] فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ التَّائِبَ مِنَ الشِّرْكِ يُغْفَرُ لَهُ الشِّرْكُ أَيْضًا بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشِّرْكَ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ، وَمَا عَدَاهُ لَمْ يَجْزِمْ بِمَغْفِرَتِهِ بَلْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَقَالَ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، كَمَا أَنَّ فِيهَا رَدًّا عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ ; لِأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَّقَ الْمَغْفِرَةَ بِالْمَشِيئَةِ، فَلَوْ كَانَ يَغْفِرُ لِكُلِّ أَحَدٍ بَطَلَ قَوْلُهُ: لِمَنْ يَشَاءُ، وَلَوْ كَانَ لَا يَغْفِرُ لِأَحَدٍ؛ بَطَلَ قَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُقُوعِ الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ مِمَّا دُونَ الشِّرْكِ، لَكِنَّهَا لِبَعْضِ النَّاسِ، وَحِينَئِذٍ فَمَنْ غُفِرَ لَهُ لَمْ يُعَذَّبْ، وَمَنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ عُذِّبَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِأَنَّ مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغْفَرُ لَهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِيهَا النَّهْيُ عَنِ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَإِنْ عَظُمَتِ الذُّنُوبُ وَكَثُرَتْ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْنَطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَإِنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَعَظُمَتْ، وَلَا أَنْ يُقَنِّطَ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: وَيُرْوَى عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْفَقِيهُ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَا يُجَرِّئُهُمْ على
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute