لَا يَفْعَلُهُ، فَإِذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ قَوْلِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ، ثُمَّ جَعَلُوا إِيمَانَ الْقَلْبِ مِنَ الْإِيمَانِ وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ بِقَلْبِهِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يَسُبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَيَقْتُلُ الْأَنْبِيَاءَ وَيَهْدِمُ الْمَسَاجِدَ، وَيُهِينُ الْمَصَاحِفَ يُكْرِمُ الْكُفَّارَ وَيُهِينُ الْمُؤْمِنِينَ، قَالُوا: وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَاصِي لَا تُنَافِي الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ، بَلْ يَفْعَلُ هَذَا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ، قَالُوا: وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الْكَافِرِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ أَمَارَةٌ عَلَى الْكُفْرِ فَيُحْكَمُ بِالظَّاهِرِ كَمَا يُحْكَمُ بِالْإِقْرَارِ وَالشُّهُودِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاطِنُ قَدْ يَكُونُ بِخِلَافِ مَا أَقَرَّ بِهِ وَبِخِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ، فَإِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُعَذَّبٌ فِي الْآخِرَةِ، قَالُوا: فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ، وَالْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ.
وَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِلْمُ أَوْ تَكْذِيبُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ فَإِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ، هَلْ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ شَيْءٌ غَيْرُ الْعِلْمِ، أَوْ هُوَ هُوَ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ أَنَّهُ أَفْسَدُ قَوْلٍ قِيلَ فِي الْإِيمَانِ فَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَثِيرُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ كَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمْ - مَنْ يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَقَالُوا: فَإِبْلِيسُ كَافِرٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا كُفْرُهُ بِاسْتِكْبَارِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ لَا لِكَوْنِهِ كَذَّبَ خَبَرًا، وَكَذَلِكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِيهِمْ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: ١٤] وَقَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِفِرْعَوْنَ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: ١٠٢] فَمُوسَى هُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ يَقُولُ " لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ " يَعْنِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ " إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ مِنْ أَكْثَرِ خَلْقِ اللَّهِ عِنَادًا وَبَغْيًا لِفَسَادِ إِرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ لَا لِعَدَمِ عِلْمِهِ، وَقَالَ - تَعَالَى - فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: ١٤٦] وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِيهِمْ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: ٣٣] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute