للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِذَلِكَ فَهَذَا مَأْخَذُ عَامَّةِ السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ، وَإِنْ جَوَّزُوا تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ، قَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ - يَعْنِي الْإِمَامَ الْحَافِظَ أَبَا دَاوُدَ صَاحِبَ السُّنَنِ - قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُ رَجُلٌ: قِيلَ لِي أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، هَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ هَلِ النَّاسُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، أَوْ كَافِرٌ؟ فَغَضِبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ: هَذَا كَلَامُ الْإِرْجَاءِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: ١٠٦] مَنْ هَؤُلَاءِ؟ ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَلَيْسَ الْإِيمَانُ قَوْلًا وَعَمَلًا؟ قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: بَلَى، قَالَ: فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَجِئْنَا بِالْعَمَلِ؟ قَالَ: لَا، فَكَيْفَ تَعِيبُ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْتَثْنِيَ؟ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ شُرَيْحٍ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ وَلَمْ نَجِئْ بِالْعَمَلِ، وَنَحْنُ نَسْتَثْنِي فِي الْعَمَلِ.

وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَحْمِلُ هَذَا عَلَى التَّقَبُّلِ يَقُولُ نَحْنُ نَعْمَلُ وَلَا نَدْرِي يُقْبَلُ مِنَّا أَمْ لَا؟ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَالْقَبُولُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهِ كَمَا أُمِرَ، فَمَنْ فَعَلَ كَمَا أُمِرَ فَقَدْ تُقِبَّلَ مِنْهُ، لَكِنْ هُوَ لَا يَجْزِمُ بِالْقَبُولِ لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِكَمَالِ الْفِعْلِ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: ٦٠] «قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَخَافُ؟ قَالَ: " لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ بَلْ هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أَلَّا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ» " وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَالْعَمَلُ الْفِعْلُ فَقَدْ جِئْنَا بِالْقَوْلِ، وَنَخْشَى أَنْ نَكُونَ فَرَّطْنَا فِي الْعَمَلِ فَيُعْجِبُنِي أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْإِيمَانِ يَقُولُ أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: أَقُولُ مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَمُؤْمِنٌ أَرْجُو ; لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَيْفَ الْبَرَاءَةُ لِلْأَعْمَالِ عَلَى مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ أَمْ لَا. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي كَلَامِ أَمْثَالِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْقَائِمُ بِالْوَاجِبَاتِ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَنَّةِ إِذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ الْمُفَرِّطَ بِتَرْكِ الْأُمُورِ، أَوْ فِعْلِ الْمَحْظُورِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُطْلَقًا، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْبَرُّ التَّقِيُّ وَلِيُّ اللَّهِ، فَإِذَا قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ قَطْعًا، كَانَ كَقَوْلِهِ: أَنَا بَرٌّ تَقِيٌّ وَلِيُّ اللَّهِ قَطْعًا، وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ مَعَ هَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>