إِنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا كَامِنَةٌ فِي النَّفْسِ وَإِنَّمَا اشْتِغَالُهَا بِعَالَمِ الْحِسِّ يَحْجُبُ عَنْهَا مُطَالَعَتَهَا، فَإِذَا تَجَرَّدَتْ بِالنَّوْمِ رَأَتْ مِنْهَا بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا وَلَمَّا كَانَ تَجَرُّدُهَا بِالْمَوْتِ أَكْمَلَ كَانَتْ عُلُومُهَا وَمَعَارِفُهَا هُنَاكَ أَكْمَلَ.
قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ: وَهَذَا فِيهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ فَلَا يُرَدُّ كُلُّهُ وَلَا يُقْبَلُ كُلُّهُ فَإِنَّ تَجَرُّدَ النَّفْسِ يُطْلِعُهَا عَلَى عُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَا تَحْصُلُ بِدُونِ التَّجَرُّدِ لَكِنْ لَوْ تَجَرَّدَتْ كُلَّ التَّجَرُّدِ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَلَا عَلَى تَفَاصِيلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الرُّسُلِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَتَفَاصِيلِ الْمَعَادِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَتَفَاصِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَلَكِنَّ تَجَرُّدَ النَّفْسِ عَوْنٌ لَهَا عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَتَلَقِّيهِ مِنْ مَعْدَنِهِ أَسْهَلُ وَأَقْرَبُ وَأَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ الْمُنْعِمَةِ فِي الشَّوَاغِلِ الْبَدَنِيَّةِ.
وَمَنْ قَالَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ هَذِهِ الْمَرَائِي عُلُومٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ فِي النَّفْسِ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ فِعْلِيٍّ نَهَجَ قَوْلَ مُنْكِرِ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ وَالْقُوَى.
قَالَ الْمُحَقِّقُ وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّ الرُّؤْيَا أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ يَضْرِبُهَا اللَّهُ لِلْعَبْدِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَإِلْفِهِ عَلَى يَدِ مَلَكِ الرُّؤْيَا فَمَرَّةً يَكُونُ مَثَلًا مَضْرُوبًا وَمَرَّةً يَكُونُ نَفْسَ مَا رَآهُ الرَّائِي فَيُطَابِقُ الْوَاقِعَ مُطَابَقَةَ الْعِلْمِ لِمَعْلُومِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّ الرُّؤْيَا لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ بَلْ لَهَا أَسْبَابٌ أُخَرُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُلَاقَاةِ الْأَرْوَاحِ وَإِخْبَارِ بَعْضِهَا بَعْضًا وَمِنْ إِلْقَاءِ الْمَلَكِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَالرَّوْعِ وَمِنْ رُؤْيَةِ الرُّوحِ لِلْأَشْيَاءِ مُكَافَحَةً بِلَا وَاسِطَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِهِ (النَّفْسُ وَالرُّوحُ) بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَقِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ رُبَّمَا شَهِدْتَ وَغِبْنَا وَرُبَّمَا شَهِدْنَا وَغِبْتَ، ثَلَاثٌ أَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْهُنَّ عِلْمٌ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الرَّجُلُ يُحِبُّ الرَّجُلَ وَلَمْ يَرَ مِنْهُ خَيْرًا، وَالرَّجُلُ يُبْغِضُ الرَّجُلَ وَلَمْ يَرَ مِنْهُ شَرًّا. فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، تَلْتَقِي فِي الْهَوَاءِ فَتُشَامُّ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» ". فَقَالَ عُمَرُ: " وَاحِدَةٌ ". قَالَ عُمَرُ: وَالرَّجُلُ يُحَدِّثُ الْحَدِيثَ إِذَا نَسِيَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ وَمَا نَسِيَهُ إِذْ ذَكَرَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute