((لِأَنَّهُ)) أَيِ: الرَّبَّ ((سُبْحَانَهُ)) وَتَعَالَى ((لَمْ يُحْجَبِ)) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ مَبْنِيًّا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ: لَمْ يَمْتَنِعْ سُبْحَانَهُ مِنْ أَنْ يُمَكِّنَ عِبَادَهُ مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي دَارِ الْقَرَارِ ((إِلَّا عَنِ الْكَافِرِ)) بِاللَّهِ تَعَالَى، وَبِكُلِّ مُكَفِّرٍ اتَّصَفَ بِهِ، فَكُلُّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ فَهُوَ مَحْجُوبٌ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: مَا حَجَبَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَحَدًا عَنْهُ إِلَّا عَذَّبَهُ، ثُمَّ قَرَأَ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ - ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ - ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: ١٥ - ١٧] قَالَ بِالرُّؤْيَةِ، وَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ: إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، فَحَدَّثَنِي بِنَحْوِ عَشْرَةِ أَحَادِيثَ فِي هَذَا، وَقَالَ: أَمَّا نَحْنُ فَقَدَ أَخَذْنَا دِينَنَا هَذَا عَنِ التَّابِعِينَ، وَالتَّابِعُونَ أَخَذُوهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ عَنْ مَنْ أَخَذُوهُ؟ . وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ: أَتَيْنَا أَبَا نُعَيْمٍ يَوْمًا فَنَزَلَ إِلَيْنَا مِنَ الدَّرَجَةِ الَّتِي فِي دَارِهِ فَجَلَسَ وَسَطَهَا كَأَنَّهُ مُغْضَبٌ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ وَمُنْذِرٌ الثَّوْرِيُّ وَزُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَحَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَحَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ، وَهَؤُلَاءِ أَبْنَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يُحَدِّثُونَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُرَى فِي الْآخِرَةِ حَتَّى أَنَّ يَهُودِيًّا صَبَّاغًا يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى - يَعْنِي بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ: لَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُمْ - يَعْنِي الْمُبْتَدِعَةَ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ أَوْ أَضَرَابِهِمْ - الشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: ٢٢ - ٢٣] فَقَالُوا: لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَحَدُوا وَاللَّهِ أَفْضَلَ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَنَضْرَتَهُ إِيَّاهُمْ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَيَجْعَلَنَّ رُؤْيَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُخْلِصِينَ لَهُ ثَوَابًا لِيُنَضِّرَ بِهَا وُجُوهَهُمْ دُونَ الْمُجْرِمِينَ، وَيُفَلِّجَ بِهَا حُجَّتَهُمْ عَلَى الْجَاحِدِينَ، وَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ لَا يَرَوْنَهُ كَمَا زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُرَى، وَلَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وَلِذَا قُلْنَا ((وَ)) يُحْجَبُ أَيْضًا عَنِ ((الْمُكَذِّبِ)) بِرُؤْيَتِهِ، وَتَكْلِيمِهِ لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ، وَكَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute