للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وُجِدَ لَا مِنْ أَبٍ، فَقِيلَ لَهُمْ: الْمَلَكُ حَصَلَ وَوُجِدَ لَا مِنْ أَبٍ وَلَا مِنْ أُمٍّ، فَكَيْفَ يَسْتَنْكِفُ الْمَسِيحُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِكَوْنِهِ وُجِدَ مِنْ أُمٍّ لَا أَبٍ وَالْمَلَكُ الَّذِي وُجِدَ لَا مِنْ أَبٍ وَلَا مِنْ أُمٍّ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْهَا؟ فَالْمَلَائِكَةُ أَعْجَبُ فِي هَذَا مِنَ الْمَسِيحِ فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: ١٩] وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ بِعَدَمِ اسْتِكْبَارِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ عِبَادَتِهِ عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ يَجِبُ أَنْ لَا يَسْتَكْبِرُوا عَنْهَا، وَلَوْ كَانَ الْبَشَرُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَا تَمَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَرِّرَ عَلَى رَعِيَّتِهِ وُجُوبَ طَاعَتِهِمْ لَهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْمُلُوكُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ طَاعَتِي فَمَنْ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ؟ وَبِالْجُمْلَةِ فَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ. (الثَّانِي) أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ عِنْدَهُ وَهَذِهِ عِنْدِيَّةُ الْفَضِيلَةِ وَالْقُرْبَةِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا فُهِمَ مِمَّا قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ تَمَامِ قُوَّتِهِمْ وَشَدَّةِ بَطْشِهِمْ لَا يَتَمَرَّدُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَسْتَكْبِرُونَ، فَمَا بَالُ الْبَشَرِ يَتَمَرَّدُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ مَعَ غَايَةِ ضَعْفِهِمْ؟ وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمَلَكِ أَقْوَى مِنَ الْبَشَرِ، لَا كَوْنَهُ أَفْضَلَ مِنْهُ بِمَعْنَى كَثْرَةِ الثَّوَابِ، وَيُجَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْبَشَرِ: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: ٥٥] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: " «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ» ". وَهَذَا أَفْضَلُ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْمَلَائِكَةِ إِنَّهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ إِنَّ رَبَّهُمْ عِنْدَهُمْ. وَمِنْهَا أَنَّ عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ أَدْوَمُ وَأَشَقُّ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ بِشَاهِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: ٢٠] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَوْ كَانَتْ أَعْمَارُهُمْ مُسَاوِيَةً لِأَعْمَالِ الْبَشَرِ لَكَانَ طَاعَتُهُمْ أَدْوَمَ وَأَكْثَرَ، فَكَيْفَ وَلَا نِسْبَةَ لَعُمْرِ كُلِّ الْبَشَرِ إِلَى عُمْرِ الْمَلَائِكَةِ؟ وَإِنَّمَا فَضْلُ الْأَدْوَمِ لِأَنَّهُ أَشَقُّ فَكَانَ أَفْضَلَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُكُمْ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ بِأَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَمَّا كَوْنُ عِبَادَتِهِمْ أَشَقَّ (فَنَقُولُ) بَلْ عِبَادَةُ الْبَشَرِ أَشَقُّ، لِمَا فِيهِمْ مِنْ دَوَاعِي التَّخَلُّفِ وَالتَّقَاعُدِ وَالْفُتُورِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى قُوَّةِ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا مُسَلَّمٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِبَشَرٍ خَاصَّةٍ، وَلَا يَلْزَمُ فِي تَفَاضُلِ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ بِشَيْءٍ التَّفَاضُلُ بِهِ فِي غَيْرِهِ كَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>