وَنَهْيَهُ فَرْضَانِ مُتَمَيِّزَانِ لَيْسَ لِمَنْ يَتْرُكُ أَحَدَهُمَا أَنْ يَتْرُكَ الْآخَرَ، فَيَجِبُ عَلَى مُتَعَاطِي الْكَأْسِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْجُلَّاسِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ وَالِانْكِفَافَ عَنِ الْمُحَرَّمِ وَاجِبٌ، وَالْإِخْلَالَ بِأَحَدِ الْوَاجِبَيْنِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ فِعْلِ الْآخَرِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: " «مُرُوا النَّاسَ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ، وَانْهَوُا النَّاسَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَتَنَاهَوْا عَنْهُ كُلِّهِ» ". وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ فُلَانًا لَا يَعِظُ وَيَقُولُ أَخَافَ أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ. فَقَالَ الْحَسَنُ: وَأَيُّنَا يَفْعَلُ مَا يَقُولُ وَدَّ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِهَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُنْكَرٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مَا أَمَرَ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ. قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: (وَصَدَقَ) وَمَنْ ذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ!
(الثَّانِي) مُتَعَلِّقُ وُجُوبِ الْإِنْكَارِ الرُّؤْيَةُ لِلْمُنْكَرِ وَتَحَقُّقِهِ، فَلَوْ كَانَ مَسْتُورًا فَلَمْ يَرَوْهُ وَلَكِنْ عَلِمَ بِهِ، فَالْمَذْهَبُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ لِتَحَقُّقِهِ وَالْمَنْصُوصُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ وَلَا يُفَتِّشُ عَلَى مَا اسْتَرَابَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَكْسِرُ الْمُغَطَّى إِذَا تَحَقَّقَهُ وَهَذَا الْمُعْتَمَدُ، وَأَمَّا إِذَا سَمِعَ صَوْتَ مَلْهَاةٍ وَلَمْ يَعْلَمْ مَكَانَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا تَسَوُّرُ الْجُدْرَانِ عَلَى مَنْ عَلِمَ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى مُنْكَرٍ فَقَدْ أَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ مِثْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّجَسُّسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، نَعَمْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِهِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: إِنْ كَانَ فِي الْمُنْكَرِ الَّذِي غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الِاسْتِسْرَارُ بِهِ بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ عَنْهُ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا كَالزِّنَا وَالْقَتْلِ جَازِ التَّجَسُّسُ وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ اسْتِدْرَاكِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرُّتْبَةِ لَمْ يَجُزِ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا الْكَشْفُ عَنْهُ. انْتَهَى.
وَحِكْمَةُ عَدَمِ وُجُوبِ التَّفْتِيشِ مَعَ وُجُودِ النُّصُوصِ عَلَى التَّجَسُّسِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ إِذَا خَفِيَتْ إِنَّمَا تَضُرُّ مَنْ يَعْمَلُهَا، وَإِذَا أُعْلِنَتْ ضَرَّتِ الْعَامَّةَ فَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُونَهُ، فَإِذَا فَعَلُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute