للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

انْتِفَاءُ عُلُومِهِمُ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الْحِسِّيَّةِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْإِنْكَارِ بِأَنَّ الْحِسَّ كَثِيرُ الْغَلَطِ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَرَى الْعِنَبَةَ فِي الْمَاءِ كَالْإِجَّاصَةِ، وَالْقَطْرَةَ النَّازِلَةَ كَالْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحِسَّ حَاكِمٌ بِبَيَاضِ الثَّلْجِ وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ شَفَّافَةٍ لَيْسَ فِي الْوَاقِعِ لَهُ بَيَاضٌ، وَأَنَّ النَّائِمَ يَجْزِمُ بِمَا رَأَى فِي نَوْمِهِ جَزْمَهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَكَذَا صَاحِبُ الْبِرْسَامِ وَنَحْوِهِ، فَيُمْكِنُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي رَفْعِ الثِّقَةِ، وَأَيْضًا الْأَمْثَالُ مُتَوَارِدَةٌ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ جَوَاهِرَ الْأَجْسَامِ عِنْدَ النَّظَّامِ أَوْ عَرَضًا كَالْأَلْوَانِ عِنْدَ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَالْحِسُّ حَاكِمٌ بِاسْتِمْرَارِهَا، فَيَقُومُ الِاحْتِمَالُ فِي الْكُلِّ وَلَا جَزْمَ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ. وَجَوَابُ شُبَهِهِمْ عَمَّا أَوْرَدُوهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى عَدَمِ الْوُثُوقِ بِجَزْمِ الْعَقْلِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ بَلْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْعَقْلُ بِمُجَرَّدِ الْحِسِّ وَهُوَ غَيْرُ مَنْكُورٍ، فَالْحَاكِمُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْعَقْلُ بِتَوَسُّطِ الْحِسِّ لَا الْحِسُّ فَقَطْ، كَذَا قِيلَ، وَالْحَقُّ أَنَّ إِنْكَارَ الْوُثُوقِ بِالْمُدْرَكِ بِالْحَوَاسِّ مُكَابَرَةٌ، ((وَ)) كَذَا مَا يُدْرَكُ بِ ((حِجَى)) كَإِلَى هُوَ الْعَقْلُ ((فَنُكْرُهُ)) أَيْ إِنْكَارُهُ وَرَدُّهُ بِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِهِ ((جَهْلٌ قَبِيحٌ)) مُتَنَاهٍ فِي الْقُبْحِ، ((فِي الْهِجَا)) أَيْ فِي الشَّكْلِ وَالْمِثْلِ يُقَالُ هَذَا عَلَى هِجَا هَذَا أَيْ عَلَى شَكْلِهِ أَيْ قَبِيحٌ فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَمَرْدُودٌ عِنْدَ ذَوِي الْهِجَا الْمُجِيدِينَ فِي التَّبَحُّرِ وَالْكَشْفِ عَنْ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ يُقَالُ: هَجِيَ النَّبْتُ كَرَضِيَ هِجًى انْكَشَفَ، قَالَ الْعَلَّامَةُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ حَمْدَانَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: كُلُّ مُؤَدٍّ إِلَى حَقِيقَةٍ ثَابِتَةٍ تُعْلَمُ عَقْلًا أَوْ حِسًّا فَإِنْكَارُهُ سَفْسَطَةٌ. انْتَهَى.

وَالسُّوفُسْطَائِيَّةُ أَنْكَرُوا كُلًّا مِنَ الْحِسِّيَّاتِ وَالْبَدِيهِيَّاتِ، فَقَالُوا بِعَدَمِ الْجَزْمِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَأَوْرَدُوا عَلَيْهِمْ جَزْمَهُمْ بِالشَّكِّ فَالْتَزَمُوا عَدَمَ الْجَزْمِ فِيهِ أَيْضًا، فَقَالُوا: نَحْنُ شَاكُّونَ وَشَاكُّونَ فِي أَنَّا شَاكُّونَ، وَهَؤُلَاءِ ثَلَاثُ فِرَقٍ عِنْدِيَّةٌ وَعِنَادِيَّةٌ وَلَا أَدْرِيَّةٌ، فَالْعِنْدِيَّةُ قَالَتْ مَذْهَبُ قَوْمٍ حَقٌّ بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِمْ بَاطِلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُصُومِهِمْ وَلَا حَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَالْعِنَادِيَّةُ: مَا مِنْ قَضِيَّةٍ بَدِيهِيَّةً كَانَتْ أَوْ نَظَرِيَّةً إِلَّا وَلَهَا مُعَارِضٌ يُسَاوِيهَا فِي الْقُوَّةِ وَالْقَبُولِ، وَأَمَّا اللَّا أَدْرِيَّةُ وَهُمْ أَمْثَلُهُمْ فَقَالُوا: نَحْنُ شَاكُّونَ وَشَاكُّونَ فِي أَنَا شَاكُّونَ، وَتَمَسَّكُوا بِأَنَّ دَلِيلَ كُلٍّ مِنْ مُنْكِرِي الْحِسِّيَّاتِ وَالْبَدِيهِيَّاتِ دَالٌّ عَلَى انْتِفَائِهِمَا وَالنَّظَرُ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِمَا مُنْتَفٍ بِانْتِفَائِهِمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>