للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

مفسرو هذه الآية على أقوال، بعد الاتفاق على تخطئة قول الجَهْمِيَّة (١) الأول القائلين بأنه -تعالى عن قولهم علوًا كبيرًا-في كل مكان؛ حيث حملوا الآية على ذلك، فأصح الأقوال أنه (٢) المدعو الله في السموات وفي الأرض، أي: يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رَغَبًا ورَهَبًا، إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزخرف: ٨٤]، أي: هو إله مَنْ في السماء وإله مَنْ في الأرض، وعلى هذا فيكون قوله: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) خبرًا أو حالا.

والقول الثاني: أن المراد أن الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض، من سر وجهر. فيكون قوله: (يَعْلَمُ) متعلقًا بقوله: (فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ) تقديره: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون.

والقول الثالث أن قوله (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ) وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال: (وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) وهذا (٣) اختيار ابن جرير.

وقوله: (وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) أي: جميع أعمالهم خيرها وشرها.

﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٦)

يقول تعالى مخبرًا عن المشركين المكذبين المعاندين: إنهم مهما أتتهم (مِنْ آيَةٍ) أي: دلالة ومعجزة وحجة، من الدلالات على وحدانية الرب، ﷿، وصدق رسله الكرام، فإنهم يعرضون عنها، فلا ينظرون فيها ولا يبالون بها.

قال الله تعالى: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) وهذا تهديد لهم ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق، بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب، وليجدُنَّ غبه، وليذوقُنَّ وَباله.

ثم قال تعالى واعظًا ومحذرًا لهم أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة الذين كانوا أشد منهم قوة، وأكثر جمعًا، وأكثر أموالا وأولادًا واستغلالا للأرض وعمارة لها، فقال (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) أي: من الأموال والأولاد والأعمار، والجاه العريض، والسعة والجنود، (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا)


(١) في د: "اتفاقهم على إنكار قول الجهمية".
(٢) في أ: "أن".
(٣) في م: "وهو".