للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ!

وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أَيِ: الَّتِي فِي يَدِكَ. كَمَا قَرَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طَهَ: ١٧، ١٨] . وَالْمَعْنَى: أَمَّا هَذِهِ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا أَلْقِهَا {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} فَعَرَفَ وَتَحَقَّقَ أَنَّ الَّذِي يُخَاطِبُهُ وَيُكَلِّمُهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ، فَيَكُونُ. كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ "طَهَ".

وَقَالَ هَاهُنَا: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} أَيْ: تَضْطَرِبُ {كَأَنَّهَا جَانٌّ} أَيْ: فِي حَرَكَتِهَا السَّرِيعَةِ مَعَ عِظَمِ خَلْق قَوَائِمِهَا (١) وَاتِّسَاعِ فَمِهَا، وَاصْطِكَاكِ أَنْيَابِهَا وَأَضْرَاسِهَا، بِحَيْثُ لَا تَمُرُّ بِصَخْرَةٍ إِلَّا ابْتَلَعَتْهَا، فَتَنْحَدِرُ فِي فِيهَا تَتَقَعْقَعُ، كَأَنَّهَا حَادِرَةٌ فِي وَادٍ. فَعِنْدَ ذَلِكَ {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ يَلْتَفِتُ؛ لِأَنَّ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ يَنْفِرُ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُ: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} ، رَجَعَ فَوَقَفَ فِي مَقَامِهِ الْأَوَّلِ.

ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لَهُ: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أَيْ: إِذَا أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي جَيْبِ دِرْعِكَ ثُمَّ أَخْرَجْتَهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا قِطْعَةُ قَمَرٍ فِي لَمَعَانِ الْبَرْقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ.

وَقَوْلُهُ: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} : قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْفَزَعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنَ الرُّعْبِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَابْنُ جَرِيرٍ: مِمَّا حَصَلَ لَكَ مِنْ خَوْفِكَ مِنَ الْحَيَّةِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ أُمِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا خَافَ مِنْ شَيْءٍ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ جَنَاحَهُ مِنَ الرَّهْبِ، وَهِيَ يَدُهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْخَوْفِ. وَرُبَّمَا إِذَا اسْتَعْمَلَ أَحَدٌ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِدَاءِ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فُؤَادِهِ، فَإِنَّهُ يَزُولُ عَنْهُ مَا يَجِدُ أَوْ يَخف، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.

قَالَ (٢) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ ثَعْلَبٍ الشَّيْخُ الصَّالِحُ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدَّبُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ (٣) : كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدْ مُلئ قَلْبُهُ رُعْبًا مِنْ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ إِذَا رَآهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْرَأُ بِكَ فِي نَحْرِهِ، وَأُعَوِّذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ، فَفَرَّغَ (٤) اللَّهُ مَا كَانَ فِي قَلْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلَهُ فِي قَلْبِ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ إِذَا رَآهُ بَالَ كَمَا يَبُولُ الْحِمَارُ.

وَقَوْلُهُ: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} يَعْنِي: إِلْقَاءَهُ الْعَصَا وَجَعْلَهَا حَيَّةً تَسْعَى، وَإِدْخَالَهُ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ فَتَخْرُجُ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ -دَلِيلَانِ قَاطِعَانِ وَاضِحَانِ عَلَى قُدْرَةِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مَنْ جَرَى هَذَا الْخَارِقُ عَلَى يَدَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أَيْ: وَقَوْمِهِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَالْأَتْبَاعِ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} أَيْ: خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ الله، مخالفين لدين الله، [والله أعلم] (٥) .


(١) في ت: "عظم خلقها" وفي ف: "عظم خلقتها".
(٢) في ت: "روى".
(٣) في ت: "بإسناده".
(٤) في ت، ف، أ: "فنزع".
(٥) زيادة من ف.

<<  <  ج: ص:  >  >>