للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ثم قال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ) أي: عمل الآخرة (نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي: نقويه ونعينه على ما هو بصدده، ونكثر نماءه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) أي: ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا، وليس له إلى الآخرة همَّة (١) البتة بالكلية، حَرَمه الله الآخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها، وإن لم يشأ لم يحصل (٢) له لا هذه ولا هذه، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة.

والدليل على هذا أن هذه الآية هاهنا مقيدة بالآية التي في "سبحان" وهي قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا﴾ [الإسراء: ١٨ - ٢١].

وقال الثوري، عن مُغيرة، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب [] (٣) قال: قال رسول الله : "بشر هذه الأمة بالسَّنَاء والرفعة، والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب" (٤).

وقوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حرموا عليهم، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة (٥) الباطلة، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم، من التحليل والتحريم، والعبادات الباطلة، والأقوال الفاسدة.

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله قال: "رأيت عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعَة يَجُر قُصْبَه في النار" (٦) لأنه أول من سيب السوائب. وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة، وهو أول من فعل هذه الأشياء، وهو الذي حَمَل قريشا على عبادة الأصنام، لعنه الله وقبحه؛ ولهذا قال تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي: لعوجلوا بالعقوبة، لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: شديد موجع (٧) في جهنم وبئس المصير.

ثم قال تعالى: (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) أي: في عرصات القيامة، (وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) أي: الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة، هذا حالهم يوم معادهم، وهم في هذا الخوف والوجل، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فأين هذا من هذا:


(١) في ت: "وهم".
(٢) في أ: "يجعل".
(٣) زيادة من ت.
(٤) رواه البغوي في شرح السنة (١٤/ ٣٣٥) من طريق الثوري به.
(٥) في أ: "الجهالات".
(٦) انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: ١٠٣ من سورة المائدة.
(٧) في ت، أ: "وجيع".