وعلى هذا يمكن تخريج كلام النقاد، إذ أن كل علم هو كالعرافة والسحر بالنسبة لمن يجهله، وكلام أبي حاتم وهو يشبه معرفة الناقد للعلة بمعرفة الصائغ للدرهم الزائف من الجيد إنما يعني به أن الحديث صناعة وفن كالصياغة التي هي صناعة وفن، ولكل منها مبادئه وطرائقه وقوانينه..
وإلى جانب ما سبق، أقول: إن كتب العلل في أكثر ما أسئلة وأجوبة، وهذه الأجوبة في معظمها يحمل الحجة والدليل، ولا غرابة في هذا إذا عرفنا أن السائل هو من أهل هذا الفن والمختصين به، فالترمذي يسأل البخاري، وعبد الله بن أحمد يسأل أباه وابن أبي حاتم يسأل أباه وأبا زرعة، والبرذعي يسأل أبا زرعة، والبرقاني والسهمي يسألان الدارقطني، وهكذا. وفي مباحث أنواع العلل وأسبابها أمثلة كثيرة فيها بيان كاف للعلة ونوعها وسببها والدليل عليها.
وبعد كل هذا فإننا نخرج بنتيجة هي أن الناس أمام هذا العلم عالم خبير به، أو جاهل منكر له. وأكبر دليل على منهجية هذا العلم وحدة منطقه، الذي يظهر باتفاق النقاد عليه، كما رأينا في إحالة أبي حاتم على أبي زرعة، ثم تشابه قوليهما في كل مسألة، فعلم العلل علم قائم على أصول وطرائق متداولة بين أصحابه، وقد ترتقي هذه الأصول والطرائق بلغتها حتى لا يعود من السهل كشف غموضها عن غير أهلها.
ويضاف إلى كل ما سبق، أن منهج علماء الحديث هو جزء من المنهج الإسلامي العام القائم على (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) والمنهج الإسلامي هو أول منهج أخرج الإنسان من سلطان الطلاسم والفيوض الوجدانية، وحرره من تحكم الأهواء والأوهام والخواطر.
وإن كنت قد أطلت في مناقشة هذه القضية، فلخطورتها وأهميتها حتى إنها تقف أمام كل باحث في العلل لتشعره باستحالة البحث والوصول إلى نتائج جديدة.