السير وأمثالهم لم يبلغوا شأوهم, وذلك لأن المؤلفين في الحديث ينظرون إليه على أنه دين وتشريع, فالتساهل في روايته تساهل في الدين.
أما المؤلفون في التاريخ والأدب واللغة فلم ينظروا إليها هذه النظرة. وإنا لنلمس هذا أيضا في صنيع ابن جرير فهو في كتابه "التفسير" يدقق ويتحرى في الرواية أكثر مما صنع في كتابه "التاريخ" وهذا يرجع إلى تغاير الفنين واختلاف الاعتبارين.
وبعد هذه المقارنة والموازنة في البحث لا أرى حرجا في أن أقول: إن رواية العلماء لما يتعلق بالقرآن والأحاديث تعتبر بدعا في بابها ولا يبلغ شأوها أية رواية قبل الإسلام ولا بعده.
بدعة سيئة:
ومع ما قدمنا من عناية المحدثين بالنقد سندا ومتنا, ومبالغتهم في التحري والتوثق من المرويات لم تسلم الأحاديث من الطعن قديما وحديثا من بعض الطوائف والملاحدة والمستشرقين, وزعموا أنها ظنية الثبوت, وسولت لهم أنفسهم, الطعن في أصح كتب الحديث وأوثقها بالهوى والتعصب, والجهل بالرواية في الإسلام وشروطها والتحوط فيها, ويعجبني في هذا المقام كلمة حق قالها أحد العلماء الثقات المعاصرين١ قال رحمه الله تعالى:"ومع كل هذا -يريد نقد المرويات وتمحيصها- فقد ابتدع بعض المتقدمين بدعة سيئة هي عدم الاحتجاج بالأحاديث لأنها تسمى في اصطلاحات بعض الفنون "ظنية الثبوت" أي أنها لم تثبت بالتواتر الموجب للقطع في النقل وكان هذا اتباعا لاصطلاح لفظي لا أثر له في القيمة التاريخية لإثبات صحة الرواية, فما كل رواية صادقة يثق بها العالم المضطلع المتمكن من علمه بواجب في صحتها والتصديق بها. واطمئنان القلب إليها أن تكون ثابتة ثبوت التواتر الموجب للعلم البديهي وإلا لما صح لنا أن نثق بأكثر النقول في أكثر
١ هو الأستاذ المحدث العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى.