للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يعين هو أيضاً بشيء من المصلحة " (١) ولقد صدق، ولعمري إن في كلامه من الحكم لما يستثير الهمم الساكنة إلى ما هيئت له. وأي كلام في نوع هذا احسن من كلامه في تعاون (٢) الناس. وقد نبه الله تعالى عباده بقوله {وتعاونوا على البر والتقوى} (المائدة: ٢) فكل ما لمخلوق فيه مصلحة في دينه أو ما لا غنى للمرء عنه في دنياه فهو بر وتقوى، إذا استعان به على أمر الله وحض عليه. وأفضل ما استعمله المرء في دنياه، بعد أداء ما يلزمه لله تعالى في نفسه من تعلم اعتقاده من قول وعمل، أن يعلم الناس دينهم الذي له خلقوا، فيقودهم إلى رضى الله عز وجل ويخرجهم بلطف خالقه تعالى من الظلمة العمية إلى النور الخالص، ومن المضيق المهلك إلى السعة الرحبة، ثم الحكم بالحق، والمنع من الظلم، والذب عن الحوزة بجهاد أهل الحرب والمحاربة (٣) وأهل البغي، وإقامة [الناس] (٤) على ما خلقوا له من إقامة الدين الذي افترضه الله تعالى عليهم، ثم العون في إحراز ما ذكرنا بكتابه واحتراز وقسمة وإقامة حد وقبض مال واجب وغير ذلك، ثم هكذا أبداً كل ما فيه عون على ذلك حتى يبلغ الأمر إلى الصناعات التي لا غنى بالناس عنها.

واعلم أن كل أحد من الناس ممن له تمييز صحيح فإنه لا يخلو من أن يكون موقناً بصحة المعاد بعد الموت وبالجزاء، أو يكون شاكاً في ذلك، أو يكون معتقداً أن لا معاد ولا جزاء، وإنما هي هذه الحياة الدنيا فقط. فإن كان ممن يوقن بالمعاد والجزاء فاللازم له إجهاد نفسه واستفراغ طوقه فيما يتخلص به من الهلكة في معاده، ويكون حينئذ إذا اشتغل بغير ذلك وضيع ما فيه نجاته وخلاصه في الأبد، فاسد التمييز


(١) نص هذه العبارة كما أوردها الحميدي في الجذوة، مروياً عن ابن حزم: إن من العجب من يبقى في العالم دون تعاون على مصلحة؛ أما يرى الحراث يحرث له والبناء يبني له والخراز يخرز له؛ وسائر الناس كل يتولى شغلاً له فيه مصلحة وبه إليه ضرورة أما يستحي أم يبقى عيالاً على كل من في العالم، ألا يعين هو أيضاً بشيء من المصلحة (الجذوة: ٤٦) .
(٢) ص: كلام في نوع.
(٣) أهل المحاربة هم المفسدون في الأرض الذين حكم القرآن بأن يقتلوا أو يصلبوا أو ينفوا من الأرض.
(٤) زيادة لازمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>