للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحمير والبقر، على ثلاثة أصناف (١) : فصنف لا يبالي فيما صرف كلامه مبادرا إلى الإنكار أو التصديق أو المكابرة دون تحقيق، فإن سألته إثر انقضاء كلامه عن القول الذي نصر دون تحقيق لم يدر ولا عرف من نصر ولا قوله، وهذا هو الأغلب في الناس، وتجد من هذه صفته يضن على أخيه وجاره بزبل منتن عند رجلي حماره فلا يبذله لمن ينتفع به، وهو أسمح الناس بالنطق الذي بان به عن التيوس والكلاب في غير أجر ولا بر لكن في الباطل والوزر والإفساد، وإن لم يحصل من ذلك ظاهرا إلا على تخشين (٢) أنابيب صدره وتصديع رأسه واحتدام طبعه وإن سفه وسفه عليه. وصنف آخر ينصر ما عقد عليه نيته واعتقده بغير برهان، فلا يبالي بما نصره من حق أو باطل أو محال أو مكابرة أو أذى، وكذلك لا تجده اعتقد ما اعتقد إلا إلفا أو تقليدا أو شهوة، دون تحري حق ولا مجانبة باطل، وهؤلاء كثير وهم دون الأولين. وصنف ثالث لا يقصدون إلا إلى (٣) نصر الحق وقمع الباطل وهؤلاء قليل جدا، ولا أعلم في الموجودات شيئا أقل [٨٩ظ] منه البتة، نسأل الله تعالى أن يثبتنا في عدادهم (٤) وأن لا يحيلنا (٥) عن هذه الصفة الكريمة بمنة آمين، فإن العاقل ينبغي له أن يبغض نفقة حياته ونطقه (٦) اللذين بهما أبانه خالقه تعالى عن الجمادات وسائر الحيوانات في غير ما ينتفع به لمعاده أكثر مما يبغض إنفاق ماله الذي هو غاد عنه ورائح.

واعلم أن ما ذكرنا من الوقوف على الحقائق لا يكون إلا بشدة البحث، وشدة البحث لا تكون إلا بكثرة (٧) المطالعة لجميع الآراء والأقوال (٨) والنظر في طبائع


(١) عرض ابن حزم لهذه الفكرة في رسالته في مداواة النفوس (رسائل ١: ٣٨١ ف: ١٤٧) فقال: رأيت الناس في كلامهم الذي هو فصل [ما] بينهم وبين الحمير والكلاب والحشرات ينقسمون أقساماً ثلاثة: أحدها لا يبالي فيما أنفق كلامه، فيتكلم بكل ما سبق على لسانه غير محقق نصر حق ولا إنكار باطل، وهذا هو الأغلب في الناس. والثاني أن يتكلم ناصراً لما وقع بنفسه أنه حق ودافعاً لما توهم أنه باطل، غير محقق لطلب الحقيقة لكن لجاجاً فيما التزم، وهذا كثير وهو دون الأول. والثالث: واضع الكلام في موضعه وهذا أعز من الكبريت الأحمر.
(٢) س: تحسين.
(٣) إلى: سقطت من م.
(٤) س: عددهم.
(٥) وأن لا يحيلنا: ولا يخلينا في س.
(٦) م: وموته.
(٧) م: بكثير.
(٨) م: الأقوال والآراء.

<<  <  ج: ص:  >  >>