للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولقد وطئت بساط الخلفاء وشاهدت محاضر الملوك، فما رأيت هيبة تعدل هيبة محب لمحبوبه؛ ورأيت تمكن المتغلبين على الرؤساء وتحكم الوزراء، وانبساط مدبري الدول، فما رأيت أشد تبجحا ولا اعظم سروراً بما هو فيه من محب أيقن أن قلب محبوبه عنده ووثق بميله إليه وصحة مودته له؛ وحضرت مقام المعتذرين بين أيدي السلاطين، ومواقف المهتمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذل من موقف محب هيمان بين يدي محبوب غضبان قد غمره السخط وغلب عليه الجفاء.

ولقد امتحنت الأمرين وكنت في الحالة الأولى أشد من الحديد وانفذ من السيف، لا أجيب إلى المدينة ولا أساعد على الخضوع، وفي الثانية أذل من الرداء، وألين من القطن، أبادر إلى أقصى غايات التذلل، وأغتنم فرصة الخضوع لو نجع، وأتحلل بلساني، وأغوص على دقائق المعاني ببياني، وأفتن القول فنوناً، وأتصدى لكل ما يوجب الترضي.

والتجني بعض عوارض الهجران، وهو يقع في أول الحب وآخره، فهو في أوله علامة لصحة المحبة، وفي آخره علامة لفتورها وباب للسلو.

خبر:

وأذكر في مثل هذا أني كنت مجتازاً في بعض الأيام بقرطبة من مقبرة باب عامر في لمة من الطلاب وأصحاب الحديث، ونحن نريد مجلس الشيخ أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد المصري (١) بالرصافة (٢) أستاذي رضي الله عنه، ومعنا أبو بكر عبد الرحمن


(١) أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أبي يزيد المصري: دخل الأندلس سنة ٣٩٤ وكان أديباً حافظاً للحديث وأسماء الرجال والأخبار، وسكن قرطبة حتى وقعت الفتنة فعاد إلى مصر وتوفي سنة ٤١٠ (الصلة: ٣٣٧) .
(٢) الرصافة: قرأها برشيه " الصواف " اعتماداً على أن هذه كانت صفة أبي القاسم المصري.

<<  <  ج: ص:  >  >>